والمدرسة الثانية، وهي مدارس الإرساليات الأجنبية كانت - ولا تزال - تعمل على قطع الصلة بين الوطن وتراثه العلمي والديني والخلقي، وبين أطفاله وشبانه من أهل الطبقة العالية الذين ولوا الأمر فيما بعد، إذ كانت القاعدة أن ينتخب أولو الأمر منهم؛ ثم زودتهم بثقافة أجنبية ملؤها الدعاية لأمة من أمم الغرب طبقاً لجنسية الإرسالية. وإن نوع هذه الثقافة قد يكون مختلفاً - وفي الواقع هو كذلك - عن ثقافة البلد الذي تنتمي إليه الإرسالية اتباعاً لخطة سياسية مرسومة لم يُرد بها - كما يدعي أو كما يفهمه الشرقي البسيط - القيام بعمل خيري من نشر ثقافة حديثة ومكافحة الأمية؛ وإنما قصد بها ضمان السيطرة على النفوس والتصرف في ميولها؛ فنشأت في الأمة فئة تجهل الأمة نفسها، تجهل عقليتها وطباعها، تحتقر الشعب وتهزأ بتقاليده، ثم بعد ذلك شاء القدر أن يكوم زمامه بيدها.
ولاختلاف ميول هذه الثقافة واتجاهاتها - وإن كانت متحدة في غرض الدعاية - كانت وجهة هذه الفئة الحاكمة مصوبة على العموم نحو ظواهر المدنية الغربية، واقتباس ما يوحي به ميلها الثقافي، لا اقتباس ما قد يتفق مع مدنية الأمة وثقافتها القديمة وما يتطلبه الشعب ولا يتعارض مع قوانينه الخلقية وسننه الطبيعية. وهنا نجد مظاهر شتى لهذا التقليد أنشأتها ميول الثقافة الأجنبية المختلفة. فمن تثقف بالثقافة الفرنسية من تلك الفئة - وهو عدد كبير - كان المثل الأعلى في نظره حضارة فرنسا وحريتها المزعومة، وعمد إلى التقليد في مظاهر الحضارة الفرنسية، وإلى الاقتباس من القانون الفرنسي، لأنه يمثل في نفسه، كما تلقن، صورة العدالة، وينطوي في نظره على (حب) الحرية وتقديس معنى الإنسانية - وما كان القانون الفرنسي، ولا أي قانون وضعي آخر يمثل في يوم من الأيام صورة العدالة على الإطلاق، ولا ينطوي على حب الحرية للحرية نفسها، ولا يقدس الإنسانية للإنسانية؛ وإلا لما أعطي للقسوة صفة خلقية، وأنكر على الوطني المستعمر حقه الطبيعي في الحياة ما دام في ذلك حفظ للسيادة الفرنسية. وما شهرة فرنسا بحب العدالة وبحب الحرية وبتقديس الإنسانية إلا لما قامت به من الثورة، كرد فعل نفسي ضد حكم الظلم والاستبداد؛ ثم استغل بعد ذلك استغلالاً أدبياً في صالحها. وللإرساليات التعليمية في الدعاية به وخصوصاً في الشرق قسط غير قليل. ثم تكون نتيجة هذا التقليد عكسية، ونهاية الاقتباس خاطئة، لأن مصر الشرقية غير فرنسا الغربية، ومصر الضعيفة الحديثة النشأة