إدراك الجليل؛ وحقيق على من انتهى إلى هذا أن يبتدئ بشيء آخر. . .
قلت: أجل! كما يبدأ ثور الطاحون من حيث ينتهي. .!
قال: لولا الغطاء الذي على عيني الثور لجمح وأبى الدوران على محيطه الضيق.
قلت: لو استطاع الثور أن يزيح ذاك الغطاء عن عينيه لحُلَّت العقدة. . . فما دامت هناك يد غير مدفوعة تضع ذاك الغطاء فهو عاجز مملوك يرى السلامة في التسليم والدوران. . . وإلا فظهره مبسوط مكشوف والسوط له حاضر. .
لقد قلت لنفسي يوماً: سأبعثك للارتياد فيما وراء الزمن والفلك فاصنعي الريش وأعدي الجناحين. . . فإذا وقفت هناك فلا يَخْسأنَّ بصرك دون أن ترىْ طرفي الركب المسوق. . سيكون ذلك عسيراً ولكن تجردي وامتدي فإن فيك قوة على ذلك. .
وقلت لها: إن المكان سينتهي. . . فترين الفراغ وعماياته ومهاويه التي ليس لها قرار. . فطيري فيه مغمضة العين، واضربي فيه بمجموع الإدراك لا بأفراده فإنها تغرق في لججه وظلماته. .
وقلت لها: أعدي السمع للموسيقى التي تميتُ طرَباً، والعينَ للأضواء التي تحرق لهباً. . واللمس والذوق لما لا يلمس ولا يذاق.
وقلت لها: هناك كلام دائم قديم فاملئي معانيك منه واحذري أن تحدثي به ناس الأرض. . وسترين كل ما كان في الأرض هناك في منطقة الصمت الذي يصعق، والسكون الذي يهول. . سترين ما يقال إنه تبدد من الأضواء والأصوات وأمواج الخلائق ووَمضَات المعاني. .
وقلت لها: ستمرين بالقوى المطيعة أبداً، العاملة بلا ضعف يلحق ولا فتور ولا سأم، القائمة على مراقبة الذرات في حركاتها وتنقلها، والحبات في تولدها وانفلاقها، والرياح في انسيابها واندفاعها، والأمواج في رحلاتها ومدها وجزرها، والأضواء في انبثاقها وفيضانها، والظلمات في انطباقها وانفراقها، والأجرام في نثارها ونظامها. . . فقفي هناك طويلاً وتعجبي من صبر هذه القوى المجندة ويقظتها وطاعتها، واملئي سمعك بنشيدها وهي هاوية صاعدة راكعة ساجدة تحت المشيئة الواحدة القاهرة الضاربة على العوالم بنطاق من العلم والقهر، فلا رد ولا اعتراض ولا هرب من أقطارها. . .