وجعل يعدو ومنزله مستتراً بظلام الليل. (دييجو! دييجو! ما خطبك؟)(لا شيء يا أم! وما عساه أن يكون خطبي؟)(لست ادري أيها العزيز. . . غير أني. . . حسبتك. . . لقد جئت متأخراً الليلة فهل أهيئ لك حجرتك الآن؟) فالتفت الفتى إلى أمه مغضباً، وقال: يا عجباً لك! انك! تسألينني هذا السؤال كل ليلة من ليالي عمري!) وكان هذا الرد كأنه سوط يستحثها، فاندفعت العجوز الصغيرة الجسم نحو الحجرة وهي تجر إحدى رجليها. اتبعها الفتى نظرات قد امتزج فيها الغيظ والكمد ورآها وهي تختفي آخر الدهليز، فتنفس الصعداء إشفاقا عليها، ثم لم يلبث أن عاود الضجر والكمد. وقد بقي ينتظرها - دون أن يعرف للانتظار سبباً، ولا ماذا عساه أن ينتظره - في هذه الحجرة المظلمة، ذات السقف القذر والجدران الممزقة الورق، التي اتخذتها الأم لصناعة الثياب حجرة صغيرة كئيبة قد غصت برخيص الأثاث، وبعدد الحياكة المختلفة: آلة للخياطة، مقص مستطيل، تماثيل سخيفة ذات صدور ضخمة، شريط مقاس، قطعة من الطباشير، أكداس من صور الأزياء ذات الابتسامة الكالحة. . . وكلها أشياء قد ألف دييجو رؤيتها فلم تعد تستلفت نظره. لقد عاد إلى منزله، يحمل
في رأسه صورة كأنها منظر شاهدة في مسرح، صورة تلك السماء العجيبة، تغشاها السحائب الصغيرة الخفيفة. ومنظر النهر القاتم، قد انعكست في صفحته أضواء المصابيح والمنازل العالية على الضفة المقابلة، وذلك الشبح البعيد لمدينة روما، وذلك الجسر الممدود. . ثم تلك الأقنعة! كانت أمامه صور كل تلك الأشياء الجامدة، حاضرة لكنها غائبة. وكذلك هو. . لقد كان حاضراً غائباً. جلس في مكانه المظلم يرقب الرجل وهو يغرق. . فكأنه لم يكن هناك، وكأنه كان غائباً، فلم يحرك ساكناً، ولم يفتح فمه، ولم يستنجد. والآن قد رجع إلى داره وقد ملكته الحيرة، واستولى عليه الذهول، كأنما كان ما سمعه ورآه لم يكن سوى حلم نائم. . لم يلبث أن رآى قطة كبيرة، ذات فروة رمادية ناعمة. وثبت فوق المائدة، وجعلت تنظر إليه بعينين خضراوين خاليتين من كل معنى، هذه قطة الدار، اتخذوها لصيد الجرذان. غير أنها منذ أيام انتزعت من الجدار قفصاً به عصفور جميل. . ثم لم تزل تحتال دائبة، تدفعها القسوة والنهم، حتى استطاعت أن تخرج العصفور من بين القضبان. ثم التهمته. وقد حزنت أمه لهذا حزناً شديداً. . بل انه هو أيضا قد آلمه أن يفترس ذلك