ولو قدرت الحياة لهذه التراجم الأخرى أو لبعضها لقطعت الشك باليقين، ولوضعت بين أيدينا الدليل المادي على أن موقف ابن المقفع من الكتاب لم يكن إلا موقف المترجم البليغ والمهذب البصير؛ أما وقد نالها من عوادي الزمان وتقلب الأحداث ما أودعها عالم الفناء فليس لنا إلا الاعتماد على دراسة ما بقى مما كتبه عنها الثقات من رجال الأدب والتاريخ، وما اقتبسته كتبهم عن بعض هذه التراجم، وفي هذا وذاك كثير من الغناء والعزاء
ولئن ذكرنا بالفضل صاحب الفهرس لما أفادنا في هذا المقام فلا يسعنا إلا أن نذكر بمزيد الإعجاب فضل إبراهيم الصولي، فقد نقل لنا في كتابه الأوراق ستة وسبعين بيتاً من ترجمة أبان النظمية، ولولاه ما بقي لنا منها إلا الأبيات الأربعة التي ذكرها أبو الفرج وهي لا تغني في البحث شيئاً
وفي هذه الطائفة التي ذكرها الصولي من المنظومة دليل آخر على أن أبان استقى من مصدر فارسي، وأنه لم يعتمد على نسخة ابن المقفع، إذ لم يقع له من عباراتها إلا ما جاء وليد المصادفة أو الاستعانة وهو نادر، كما يلاحظ على منظومته قلة تداخل حكاياتها والاقتصاد في سوق الحكم، وربما ذكر الشيء في غير الباب الذي وضعه فيه ابن المقفع
ابتدأأبن نظمه بالبيت المعروف: -
هذا كتاب كذب ومحنة ... وهو الذي يدعي كليله دمنة
ثم ذكر في الأبيات الأربعة التي تليه أن الكتاب من عمل الهند وصفوا فيه الآداب على ألسنة البهائم، ليشتهي السخفاء هزله وليعرف الحكماء فضله: -
وهو على ذاك يسيرُ الحفظِ ... لَذٌّ على اللسان عند اللفظ
ثم أتى الصولي بعد ذلك باثنين وعشرين بيتاً يبدو أنها ليست من هذا التمهيد الذي وضعه أبان؛ وإنما هي من باب برزويه تبدأ عند مناجاة هذا الحكيم نفسه بقوله:(يا نفس أما تعرفين نفعك من ضرك؟! ألا تنتهين عن تمني ما لا يناله أحد إلا قل انتفاعه. . .) وفيها يحدث نفسه بأن الدنيا بما لنا فيها من أحباء وأصدقاء كثيرة الآلام، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يعرض نفسه للهلاك في سبيل جمع ما يرضي به أهله ومحبيه؛ وأن في النسك وترك الدنيا لمن يشقى بها النجاة من الشرور. وختم أبان الأبيات بالإقرار الوجدانية وأنه مرتهن بعمله إن خيراً فخير وإن شر فشر؛ ثم اقتبس الصولي من باب الأسد والثور تسعة وأربعين