موسيقى صامتة تنشر أحلى النغم حوالي هذه الحبيبة التي انسرقت تحت إسدال الظلام تمشي كالقطاة وترسل من فوق رأسها خماراً رقيقاً كسحابة الصيف تستر ما وراءها وليست شيئاً! لقد كانت تتوجس في نفسها خيفة وهي تدب في سكون الليل، كما يسري الحلم الجميل في خلد النائم
وذهبت تطوي الطريق وفي رأسها ألف فكرة عن هذه المجازفة؛ وبلغت مقبرة نينوس آخر الأمر، ولكنها لم تجد حبيبها عندها. ترى؟ ماذا عوقه؟ لقد كان رخام المقبرة نظيفاً ناصعاً، ولقد كان شبح الفناء جاثماً فوقها يلمع في ضوء القمر، كأنه يتلاعب بالسنين والأحقاب، وكأنه يسخر من كل شيء فوق الأرض! وبدا للفتاة الضعيفة كأنه يرقص كالسكران فوق الشاخص الرخامي، ولكنها أخذت تصرف عن عينها رؤى عفاريت الليل، وتصاوير الوهم المريض؛ ثم سخرت من خوفها وذكرت التوتة البيضاء، والنبع الذي عندها، فارتدت إليهما لتجلس ثمة، ترتقب زورة الحبيب
وجلست عند جذع التوتة، وجعلت تحدج الثمر الأبيض، وتشتهي لو سقط منه شيء تأكله حتى يحضر بيرام. . . ثم سمعت دبيباً يقترب، فلم تشك أن بيرام قد أقبل، ونبض قلبها بشدة وانذرفت من عينها عبرة لم تفكر هذه اللحظة أن تذرفها. . . ثم أبطأ الدبيب. . . ووثبت تسبيه تمد عينيها الثاقبتين في أرجاء الدنيا الصامتة الرهيبة، ولكنها لم تر شيئاً، وعادت عفاريت الليل ترقص في وهمها، ولكنها لم تبال، وجعلت تجاهد نفسها مجاهدة لينة مرة، عنيفة مرة أخرى، وهي في هذا وذاك تفكر في حبيبها بيرام، وتضرب في تأخره أخماساً لأسداس. . . ثم ذعرت الفتاة ذعراً كبيراً، وساخت الأرض تحت قدميها المرتجفتين أو كأن قد. . . ذلك إنها لمحت شبح لبؤة تخرج من دغل قريب فجأة، ثم تيمم شطر النبع الذي تعرش من فوقه التوتة. ماذا؟ إنها لبؤة ضارية أقبلت ترتوي من ظمأ ملح وجواد شديد. . . وهي تتبهنس مع ذاك كأنها عروس ولكن من الجن
وأطلقت الفتاة ساقيها للريح، ولم تحفل بها اللبؤة، لأنها قد افترست فريسة قبل ساعة ونهشتها، وهذا فمها ملوث بالدم الغريض الدافئ. . .
لم تصنع اللبؤة شيئاً، إلا أنها رأت الخمار الأبيض الذي كانت تسبيه ملتفعة به، ملقى على الأرض، فعاثت فيه، وكأنما أرادت أن تمسح فمها به، فلوثته بالدم، ثم هممت نحو النبع