ولا أريد ههنا أن أبحث عن الصلة بين (العقل) والخيال؛ لأن المقام لا يتسع لذلك؛ ولأني أريد أن أساير الأستاذ في فروضه ونظرياته حتى يكون الرد. . . أوجز. ولكن لا مانع من أن أساله هذا السؤال: ما السر في قلة أدب القصص والخيال في الشرق عامة بالقياس إلى أدب المقالة والتفكير؟
ثم يقول الأستاذ علي:(أنا إلى هنا في القول بأن الحقيقة في صف العلم والجمال مع الأدب)(والواقع غير ذاك. ذلك أن العلم في تبدل مستمر وتغير دائم). (في حين أن الأدب باق في منزلته، ثابت في مكانته)(ولا يعتريه تغيير ولا تبديل). فأين هي الحقيقة؟ وأي الشيئين هو الثابت؟ وأيهما المتحول؟
كلا هذين الرأيين مخطئان، ولننظر أولا في الرأي الثاني: فالأدب متغير متبدل دائماً. لأن الأدب يصدر عن الشخصية ويخاطب الشخصية، وبما أن شخصيات الناس تختلف، فكل شخص يفهم من قصيدة بعينها ما لا يفهمه شخص آخر؛ ومعنى ذلك أن الحقائق العاطفية والمعاني الروحية التي أراد الشاعر أن يوصلها إلى نفس القارئ قد ضاعت وزالت، وبتعبير أدق، قد تحولت إلى ملايين من الحقائق والمعاني. وهذا هو السبب في اختلاف النقاد على الأثر الأدبي الواحد. بل إن الشاعر نفسه قد يعجز بعد مضي زمن قصير أو طويل على استعادة معانيه العاطفية التي أودعها قصيدته. وإلى جانب هذه المعاني المتبدلة المتحولة تجد ما يحتويه (الكتاب العلمي الذي ألف منذ خمسين سنة) هي نفس حقائق الطبيعة، والذي لا (نقبله) منه اليوم هو نظرياته (كما سترى بعد قليل).
فإن قلت: إن المهم ههنا أني أقرأ اليوم الديوان الذي نظم منذ ألف سنة ولا أقبل الكتاب العلمي الذي كتب منذ خمسين سنة لأن ما في الأول من صفات القوة والجمال وسمو الموضوع هو الذي يبقيه ويخلده. كما أن نسخ النظريات و (القوانين) الجديدة لتلك التي سبقتها هو الذي يدعوني لرفض الثاني. قلت: هذه النظرة إلى بقاء الأدب أقبلها على تعارضها مع الحقيقة التي ذكرتها على تغيره، لأن غايتي من هذا المقال أن أدفع التهم التي ألصقتها بالعلم لا أن أبحث في الأدب أو أفاضل بينه وبين العلم فلننظر الآن في تغير العلم الدائم، والكتاب الذي (لا يقبله طالب ثانوي). . .
يتلخص عمل العلم في أنه يجمع مقداراً من الحقائق، ثم يحاول أن يضع لها قاعدة عامة