للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

على تنفيذها

كان الأخذ بالثأر إذاً حقاً وواجباً معاً؛ وكثيراً ما كان عبئاً ثقيلاً يقع على أفراد أسرة الجاني فتختار أهون الشرين وذلك بتسليم الجاني إلى أصحاب الدم، وبذلك تتخلى عن المعتدي إما خوفاً من الهزيمة وإما اجتناباً للحرب ورغبة في حقن الدماء. وقد تكتفي أسرة المجني عليه إذا وجدت نفسها أمام خصم قوي بالصلح تلقاء تعويض أو فدية تؤخذ من الجاني حتى تغض النظر عن طلب الثأر، وبذلك نشأت فكرة شراء الجريمة بالمال، وسمي ذلك بالدية أو بدل الصلح على الجريمة؛ فكان القاتل ينجو من العقاب إذا أفلح في الصلح مع أهل القتيل. ولم يكن المال الواجب دفعه ثمناً للصلح متساوياً في جميع الجرائم المتعددة من حيث الجسامة، بل اختلف كثرة وقلة بحسب مركز الجاني والمجني عليه معاً رفعة وضعة وبحسب مركز أسرتيهما وبحسب الإهانة التي لحقت الأسرة المعتدى عليها. بسبب الجريمة قامت العدالة إذن وتأسست على المصلحة المادية المؤيدة بالقوة والمعززة بها؛ وشاع نظام المبارزة الذي هو التجاء صريح إلى حكم القوة لفض نزاع مدني أو جنائي، فكان المنتصر هو صاحب الحق؛ وأصبحت المبارزة وسيلة قضائية أخرى لفض النزاع بين المتخاصمين

ثم خطا المجتمع المصري القديم خطوة أخرى إلى الأمام تبعد بعض الشيء عن حالة الوحشية السابقة، فركن إلى مهارة الخصمين لفض النزاع، فشرع مثلاً مساجلات غنائية بين الخصمين يكون المنتصر فيها صاحب الحق، أو ترك ذلك إلى المصادفة كإلقاء الخصمين مكتوفي اليدين أو الرجلين أو هما معاً في الماء، ومن أشرف منهما على الغرق كان هو مقترف الذنب؛ أو يكوى به اللسان أو أي عضو آخر في الجسم بحديد محمى، ومن يمتنع منهما كان امتناعه دليلاً على أنه المذنب، إلى غير ذلك. وكانوا يلجئون إلى هذه الوسائل وأشباهها في تعرف الحق لاعتقادهم أن الله لا يخذل صاحب الحق أبداً

ثم تدرجوا في الرقي فاختاروا (وسيطاً) يفصل في النزاع بحكمته بينهم، وانتهى التدرج إلى قبولهم (حكماً) يفصل في منازعاتهم، فحل (الحكم) محل (الوسيط) وبذلك أقبل الناس إلى شيوخ العشائر وإلى رؤسائها وإلى رئيس القبيلة وإلى كل شخص عرف بأصالة الرأي وصحة الحكم ليفصلوا فيما شجر بينهم من نزاع، فكان قضاء مضطرباً غير ثابت لأنه لم يصدر عن قانون مسنون يمده بقواعده، ولا يستند إلى سلطة عليا تتولاه وتؤيد أحكامه ولو

<<  <  ج:
ص:  >  >>