النافذة فأغلقتها في بطء شديد وحزن شديد، مطأطئة رأسها في كآبة وكمد. ثم سقطت على سرير ممدود وجعلت تسفك العبرات وتعول بالبكاء. . بصوت لولا دوي الريح لأسمع من بالدار. وما أشد حاجتها في ذلك المساء إلى الوحدة وإلى البعد عن الناس وإلى البكاء تطفئ به ذلك الجحيم المستعمر في صدرها وفي أحشائها.
مسكينة ليلى! إن فلسفتها قد خابت، وتجربتها قد فشلت! وكل هذا التقدير والتدبير والسعي والاحتيال لم يصادف إلا حبوطا أليما، وخيبة قاتلة. إن الداء كان عضالا، والسم قد سرى إلى الرأس والأوصال، والعرق والعصب؛ فاستفحل واستمكن، ولات حين علاج، ولات حين شفاء. .
واختلط الحزن في قلبها، وألح عليها من كل جانب، فليس يدرى أي خطبيها أشد وأقتل؛ فشل تلك التجربة وذلك الرأي السديد الذي حسبته زبدة الحكمة وخلاصة الفلسفة، أم كارثتها في هذا المخلوق الذي بات حتما عليها أن ترضاه، وهو دون الرضى، وأن تعتمد عليه في الحياة، وهو ذلك الرطب العاجز المائع.
لقد فشل تدبيرها فشلا ذريعا، فأن المسكين لم يطق الريف، ولم يلبث أن أسأمه وأضناه، فقضى أيامه هناك بين سقم وبين الإفاقة من سقم، حتى أشفقت عليه ليلى وأذنت له أن يعود. أما ذلك الشعرالقليل الذي نبت على خديه وشفتيه، فلم يك الاغشاءً رقيقا تافها، لم يقربه من الرجولة قيد شعرة.
مسكينة ليلى! أن الرزء الذي رزئته لشديد. ولم يبق لها من وسيلة تتوسل بها سوى الصبر، والصبر أوهى الوسائل. . وما أشد حاجتها لأن يكون لديها من هذه الوسيلة الواهية ذخيرة لا تنفذ، ذخيرة تكفيها العمر كله. . لا بد أن يكون في العالم شهداء يحملون الأرزاء، فلا رأى اليوم إلا أن تكون كأحدهم. ولئن كان رزؤها هذا من صنع يديها، فما أحقها بحمله والاضطلاع به. . مدى الحياة.
لقد سخرت منها المقادير، حين أرتها الحياة حلما زاهيا، وزهرا نظيرا، واليوم وقد آن للزهر أن يحول ثمرا وللدوحة أن تؤتي أكلها، إذا الأقدار تسلط عليها هذا السقم العضال يذويها ويفنيها. لم يبق لها بد إذن من أن تودع هذه الأحلام جوف الثرى، في غير رحمة ولا هوادة، وتستقبل هذا العهد الجديد، عهد الشهداء الصابرين في قوة وجلد.