وسرعان أن عاد إليها. . . ثم ودعته ربة الجمال والحب وهي تقول له:
- تستطيع الآن أن تلقى بومونا، وسأرى ما يسوقك إليه ذكاؤك! ورفت فينوس فكانت في سماء الأولمب!
واستطاع فرتمنوس أن يدخل حديقة حبيبته في أي لحظة شاء. وكان يدخلها في صورة بلبل غرد، ما يزال يغني ويهتف حتى يلفت إليه أنظار بومونا وأسماعها؛ وكان يتبعها أينما ذهبت فيقف على أقرب شجرة، ثم يرسل أغاني الحب وأغاريد الغرام، فتنسكب في أذني عروس الغاب، فتقف لتسمع لحظة، ثم تأخذ في عملها كأنها لم تسمع شيئاً. . . فيتضايق الفتى، ويطير أسوان أسفاً. . .
واستمر على هذه الحال أشهراً، وكل يوم يمر يزداد بالعروس هياماً، ويفنى فيها حباً، حتى خيف عليه من المرض؛ وأحس هو أن ريب المنون يسري في عظامه، وبرد اليأس يوشك أن يوقف نبضات قلبه؛ ثم بدا له آخر الأمر أن يزور حبيبته في صورة أخرى تختلف عن تلك الصور البلبلية التي اعتاد أن تراه فيها، ثم عول هذه المرة - إذا لم يفز بحبيبته بومونا - على أن ينتحر تحت قدميها في صورة البلبل الحزين!
رأى أن يزورها في صورة عجوز شمطاء! ولم لا؟ أليس عجائز النساء أقدر على إيلاف قلوب العذارى من كل أحد غيرهن؟ أليس لهن حديث طلي يتصل من حيث ينقطع، ويتشقق عن كل خرافة حلوة وكلمة طيبة، وبأسلوب ظريف يشبه (تنميل) الخمر في أطراف السكارى؟!
وقف فرتمنوس في ظل أيكة باسقة نامية في منعرج قريب من حديقة بومونا، ثم طفق يفكر في صورة عجوز طيبة القلب، سمحة الملامح، وراح يتخيل شعرها الأشمط وذوائبها الخلس وغدائرها الزُّعر، ويديها عريَتي الأشاجع، وعينيها الغائرتين، وجبينها المجعد، ووجهها المعروق. . . فكان له كل ذلك، ثم كانت له هيبة ووقار وأسْر، في سكينة ودعةٍ وحسن سمت. . . وأضفى عليه حِبَرة سوداء فضفاضة، وجعل في قدميه خفين هرمتين، وفي يده عكازاً مقوساً ما أشبهه بصولجان الموت!