للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مفاليك لا ألباب لهم، فهم ينظرون النظرة فتهيج شياطين الهوى في صدورهم، ثم ينظرون النظرة إلى حسناء أخرى فتنجذب شياطينهم إليها، فإذا لقيتهم ثالثة لم تأب تلك الشياطين أن تتصرع تحت قدميها. . . أما فرتمنوس، فقد أحبك ولم يشرك حسناء في هواك، لأنه لا يرى لك في قلبه شريكة تسمو إلى إخمصيك. . . ارحميه يا بومونا، اعطفي عليه، وانظريه كأنه يتوسل إليك بلساني، ويشكو لك بثه بعيني (!). . . ألا تخافين أن تقتص له فينوس منك؟ ألا تعلمين أنها تتأثر للعشاق من كل حبيبة قاسية القلب؟ ألم تعرفي ما صنعت بالقاسية أنَاْجزَرْتيه؟

- ومن أناجزرتيه يا أماه؟ وما قصتها؟

- ألا تعرفينها؟ ولا تعرفين مأساة الفتى إيفيس؟

- وما مأساة إيفيس؟ قصيها عليّ بالله عليك!

(لقد كان إيفيس فتى جميل المحيا وضاء الجبين، ولكنه كان من صميم الشعب؛ وكانت أناجزرتيه من بنات الأعيان الموسرين. . . وكانت بينهما من أجل ذلك هوة سحيقة لم تمنع إيفيس من حب الفتاة لدرجة الجنون. وكان كلما لقيها غشيه من الغرام ما لو حمله جبل لناء به، ولكن الفتاة كانت تعرض عنه ونزْوَرّ، وتطوي الطريق عجلاته إلى قصرها الباذخ المنيف ذي الشرفات. . . وكان الفتى يتبعها بقلب وامق متصدع ولكنها كانت تدخل من باب الحديقة الحديدي ثم توصده من دونه، فيقف ثمة يتزود منها نظرات الموجع اللهفان من خلل القضبان، ثم يذرف دموعه، وينثني إلى داره، وليس في قلبه إلا حبها مع ذاك، ولا في عينيه الباكيتين إلا صورتها! وطالما كان يهب من نومه في جنح الليل فيطوي الطريق مُفَزَّعاً، حتى إذا كان لدى البوابة الحديدية وقف عندها، وعانق قضبانها، وبكى ما شاءت الآلهة، وتغنى آلامه وغرامه، ثم ارتد وقد تضاعف وجده، وازدادت صبوته. . . وكم ذا رأته أناجزرتيه فكانت تحقره وتسخر منه، بل كانت لا تعفيه من كلمة قارصة، أو غمزة تهكم واستهزاء، ولم يشفع لديها ما قاله مرة لمرضعها العجوز وما بث من شكاة، بل زادها ذلك قسوة وعناداً. . . ولما جد به الجد، ولم يكن بد مما ليس منه بد، ذهب إليها في ضحوة ضاحكة من ضحوات الربيع، ثم تعلق بالبوابة، وكانت حبيبته ترتع وتلعب في حديقة القصر، فهتف بها وقال: (أيتها القاسية أناجزرتيه اسمعي! لقد قهرت قلبي وغزوت نفسي

<<  <  ج:
ص:  >  >>