وجلس جاسون فأكل وشرب، ثم أخذت الموسيقى تعزف فتشرح الصدور الحرجة، وتشفى النفوس من كل حرد؛ واعتلى المنصة التي أقيمت في صدر الحفل جماعة من المنشدين ورواة القصص، شرعوا يسردون قصصهم، ويتناشدون أشعارهم، ويروون من أنباء الأبطال ما يأسر القلوب ويسحر الألباب، حتى أن جاسون نفسه كان يصغي إليهم وكأنه يتلقى وحياً من السماء يتنزل على قلبه، ويدعوه إلى فعال الفتية الأبطال
قال أحد المنشدين (واسمعوا أيها الناس حكاية الملك الذي صبا قلبه إلى امرأة غلبت فؤاده وسحرته بجمالها عن زوجته وأم طفليه، فبنى عليها، ولم يبال أن ينقض ركن الأسرة وينهار عمادها. . . ذلك هو أتماس أحد ملوك تساليا في الزمان القديم. ولقد فزعت الملكة البائسة وخشيت أن يصيب طفليها مكر ضرتها فاعتزمت أن ترسلهما إلى ملك كولخيس ليكونا بنجوة من إينو الخبيثة. . . وفيما هي واجمة تفكر في ذلك إذا هرمز الأمين يتنزل من السماء فيسألها وتجيبه:
- نيفيل أيتها العزيزة؟ فيم تفكرين حزينة هكذا؟
- هرمز؟ تباركت يا رسول السماء! أفكر في ولدي هذين وما عسى أن يصيبهما من مكر إينو. . .
- لا عليك يا حبيبة الآلهة، إنني مساعدك، كفكفي دموعك!
- شكراً يا إله الرحمة، سأسبح لك ما حييت!
- وأين تحسبينهما يكونا في سلام وأمن يا نيفيل؟
- لا يكون ذلك إلا عند ملك كولخيس، ولا أدري كيف أرسلهما إليه؟!
- لا أهون من هذا، فانتظري طرفة عين!
ومضى الإله فغاب برهة، ثم رجع ومعه كبش عظيم ذو فروة ذهبية وقرنين وحوافر من خالص الإبريز، فقدمه إلى الملكة المحزونة ليركبه طفلاها، ولينقلهما إلى ملك كولخيس؛ وسجدت الملكة شكراً لهرمز، ثم ودعت طفلها فركسوس، وابنتها هِلّه، وطبعت فوق جبينهما وخدودهما ألف ألف قبلة، ودعت لهما؛ ثم انطلق الكبش في الأثير يطويه بين بكائها الطويل وآهاتها التي لا تنتهي. . . وطفق الكبش يعرج في السماء، ويخطف فوق الممالك، حتى كان فوق بحر صاخب مضطرب، تقلبت أمواجه، وتناوحت زوابعه، فنظرت