وهذه الأحوال كانت بينهما على تفاوت المذاهب والعصبية والديانة، فقد كان الكميت شيعياً عصبياً عدنانياً من شعراء مضر متعصباً لأهل الكوفة، وكان الطرماح خارجياً صفرياً قحطانياً عصبياً لقحطان من شعراء اليمن متعصباً لأهل الشام، فقيل للكميت: فيم اتفقتما هذا الاتفاق مع اختلاف سائر الأهواء؟ فقال: اتفقنا على بغض العامة
والعامة التي اتفقا على بغضها كانت في ذلك الوقت جمهور الأمة من خاصة الناس وعامتهم، فقد استكانوا لحكم بني مروان حين طال عليهم أمده، وخضعوا لظلمهم ولم يعنهم إلا أمورهم الخاصة، كشأن العامة في كل وقت وفي كل أمة، ولا يزال بغض الحكومات القائمة يقرب الآن بين معارضيها، وينسيهم ما بينهم من عداوات، واختلاف في المشارب والأهواء
فنصب الكميت نفسه لمناهضة بني مروان بشعره، وهم أصحاب الملك في الناس، وأخذ ينصر عليهم أهل البيت والأمر مدبر عنهم، وليس هناك مطمع فيهم، وإنما هو سبيل اتخذه لنفسه يرضي به عقيدته، وينأى بعلمه وشعره أن يتخذهما أداة كسب كما فعل ذلك غيره من الشعراء، فكان يقول الشعر للشعر ويتخذه وسيلة لإرضاء نفسه وعقيدته، ويجاهد به في إصلاح حال أمته، ويؤدي به ما يجب على الشاعر في عصره، ولا يهمه بعد هذا ما يفوته من دنيا الملوك، ولا ما يصيبه من عنتهم وإرهاقهم
وقد أراد ثراة أهل البيت أن يثيبوه على ما يقوم به من نصر دعوتهم، وإنشائه القصائد الطوال في مدحهم والإشادة بذكرهم، فكان يعرض عما يعرضونه عليه من الصلات والجوائز، ويذكر أنه يريد من ذلك وجه الله تعالى، ونصرة الحق الذي يدين به، وقد حدث صاعد مولى الكميت قال: دخلنا على أبي جعفر محمد ابن علي فأنشده الكميت قصيدته التي أولها:
مَنْ لقلبٍ متيَّم مستهامِ
فأمر له بمال وثياب، فقال الكميت: والله ما أحببتكم للدنيا، ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه، ولكنني أحببتكم للآخرة، فأما الثياب التي أصابت أجسامكم فأنا أقبلها لبركاتها، وأما المال فلا أقبله، فرده وقبل الثياب
وحدث أيضاً فقال: دخلنا على فاطمة بنت الحسين رضي الله عنهما، فقالت: هذا شاعرنا