الملك وعن غرفة غذائه خاصة شيء مطلقاً. . . فلقد كانت تخمش وجوه الجند وتمزق جلودهم كلما حاولوا صدها عن بيت مولاهم؛ وكانت تفلت من سيوفهم وتمرق من سهامهم بخفة تخير الألباب، ولم يحدث مرة أن أصاب أحد الجنود منها غرضاً، حتى جن جنون الملك وتضاعفت بلواه، وجأر بالشكوى إلى آلهة السماء
ودهش جاسون، وذهب بالقصة إلى رفاقه الآرجونت، فتقدم إليه البطلان الضرغامتان، ولدا بوريس، يقترحان أن يذهبا معه إلى الملك المسكين فيعرضا عليه حرباً عواناً يشبان نيرانها على هذه الطيور، فأما أن يتم لهما النصر عليها، وأما أن تكون لها الكرة عليهما. . . وصادف الاقتراح هوى في نفس جاسون فانطلق معهما إلى الملك الذي هش لهما وبش، وفرح بما عرضاه فرحاً شديداً. . . فلما حان موعد الغداء، جلس الملك وضيفاه - وكان جاسون قد عاد إلى السفينة - إلى المائدة. ثم لم تمض لحظات حتى أقبلت الطيور ترنق فوقهم وتُدَوّم، فوقف البطلان وامتشقا سيفيهما، فلما هبطت ناوشاها مناوشة عنيفة، ولم يمكناها من خدش واحد تحدثه ببدنيهما، بل هجما عليها هجوماً ذريعاً وأخذا يسقطان منها عدداً كبيراً كان يهوي فوق الأرض فيلطخها بدماء حارة فائرة. . . وكلما هبطت واحدة طفقت تشكو وتبث بلسان يوناني مبين. . . ثم فرت بقية الطير. . . لكن ملكتها حطت بمكان قريب من الملك وهتفت به كي يأمر بوقف الملحمة حتى تدعو بعض جندها لنقل جثث القتلى. . . بيد أن الملك رفض طلبتها حتى تقاسمه أغلظ الأقسام وأوكدها أنها لا تعود إلى الاعتداء عليه أبداً، ولا تعود إلى زيارة تراقيا كلها أبد الحياة. . . فقاسمته ملكة الطير، فأشار إلى ولدي بوريس فأغمدا حساميهما، وذهبت الملكة وعادت بعد قليل في شرذمة من جندها، وبعد أن ذرفت من دموعها على قتلاها حملتها وذهبت إلى غير عود. . . وبرت قسمها، فلم تزر تراقيا بعد هذا أبداً. وشكر الملك لولدي بوريس، وعرض أن يستوزرهما، فرفضا شاكرين، ليصحبا جاسون
وكأنما ذاع نبأ الهزيمة في عالم الطير فهبت جبابرته تأخذ بثأر الهاربِز؛ فإنه ما كادت الآرجو تبعد عن شطئان تراقيا، حتى رأى راكبوها سرباً كبيراً من البزاة والنسور البواشق يقبل من علو كأنما تفتحت عنه أبواب السماء، ثم لا يفتأ يضرب الهواء بخواف من نحاس تلمع في أشعة الشمس كالذهب؛ حتى إذا كان فوق الآرجو طفق يضرب راكبيها بحجارة