أجل أنه بلغ مبلغه منها حين وجد الألم في حبها فوجد ينبوع الشعر الذي كان يفتقد؛ ومن أجل أن الرافعي الغيور الظنين الكثير الأثرة والاعتداد بالنفس. . .!
وخُيِّل إليه حين كتب إليها رسالة القطيعة في يناير سنة ١٩٢٤ أنه يبغضها، وأن هذا الحب الذي قطعه عن دنيا الناس عاماً بحاله قد انتهى من تاريخه وطواه القدر في مَدْرَجة الفناء، وأن نفساً كانت في الأسر قد خرجت إلى فضاء الله. . .
وأحس في نفسه حديثاً طويلاً يريد أن يفضي به، وشعر كأن في قلبه ناراً تَلظَّى، واصطرعت في نفسه ذكريات وذكريات، وخيِّل إليه أنه يكاد يختنق؛ فصاح من كل أولئك مغيظاً محنقاً يقول:(أيتها المحبوبة، إنني أبغضك. . . إنني أبغضك أيتها المحبوبة!)
ليت شعري، أكان الرافعي يعني ما يقول؟ أكان على يقين حين يزعم أنه يبغضها؟ أم أنه استعار للحب لفظاً متكبِّراً من كبريائه العاتية فسماه البغضَ وما هو به ولكنها ثورة الحب حين يبلغ عنفوانه فتختلط به مذاهب الفكر ومذاهب النظر فلا يبقى فيه شيء على حقيقته؟
كلا، ما أبغض الرافعي صاحبته يوماً منذ كانت ولا استطاع أن يفك نفسه من وثاقها، وما هذه الثورة التي ألهمته كتابيه (رسائل الأحزان، والسحاب الأحمر) إلا لون من ذلك الحب وفصل من فصوله وكان الخطأ في العنوان؛ فلما ثابت إليه نفسه نزع به الحنين إلى الماضي ولكن كبرياءه وقفت في سبيله، فظل حيث هو ولكن قلبه ظل يتنزى بالشوق والحنين. . .!
وجاءت صاحبته إلى طنطا بعد ذلك بقليل، مدعوَّة إلى حفلةٍ خيرية لتخطب، وكان الرافعي مدعواً لمثل ما دعيت له. وعلى غفلة التقت العيون، فدار رأس الرافعي وذُهب به، وعاد الزمان القهقري لينشر ماضيه على عينيه، وزلزلت نفسه زلزالا شديداً حتى أوشك أن تغشاه غاشية، وحاول أن يتحدث فوقفت الكبرياء بين قلبه ولسانه؛ وخشي أن يفتضح فنهض عن كرسيه منطلقاً إلى الباب؛ ولحقه صديقه الأديب جورج إبراهيم، فأفضى إليه بذات صدره وودع صاحبته بعين تختلج، ومضى. . .
وانتهى الاحتفال، ووقفت (هي) تدير عينيها في المكان فما استقرتا على شيء؛ ووجدت في نفسها الجرأة على أن تقول:(أين الرافعي؟) فما وجدت جواباً. . . وكان الرافعي وقتئذ جالساً إلى مكتبه ينشئ قصيدة لمجلة المقتطف عن بعث الحب. . .! وكان آخر لقاء. . .!