(وسأبين لك افتقاري إلى العطف والحنان، ثم أبكي أمامك وأنت لا تدري. . .!)
وأحبته (صديقاً) تفزع إليه إذا ضاقت بآلامها وحزبتها الهموم. . .
وهي الفتاة التي لم تعرف في حياتها إلا التجهم والعبوس، ولم تعرف من دنياها إلا الجد الصارم؛ وما كان لها من عمل غير الاستغراق في الفكر، أو الاستغراق في الفن؛ وإنها لأنثى وإن كانت فيلسوفة شاعرة. . .
والرافعي رجل - كان - لا يحمل من هم، فما يدع النكتة ولا يترك المزاح والدعابة وإن الدنيا تصطرع حواليه، وإن كان القضاء منه بمرصد يراه ويتوقعه؛ وإنه ليهزل في أجدِّ الجد وأحرج الساعات هزله في أصفى حالاته وأسعد أيامه؛ فما يجالسه ذو هم إلا سُرِّى عنه كأنما يمسح قلبه فيمحو أحزانه. . .
وتحدث إليها وتحدثت إليه، فأحبته (الرفيق الأنيس) الذي تسيطر عليها روحه فينتزعها من دنياها العابسة إلى دنياه. .
واستمعت إلى صوته يتحدث، فكان له في نفسها رنين؛ ونظرت إلى سحنته الفكرية النبيلة فرأت فيها مرآة نفس صافية لا تعرف الخداع والتزوير؛ ولمحته يبتسم، فجذبتها إليه ابتسامه لم تجد مثلها إلا زيفا على شفاه الرجال؛ ونظر إليها ونظرت إليه، وقال وقالت، وتحدث قلب إلى قلب، وتناجيا في صمت؛ وتركها وهي في نفسه، ومضى وهو في مجلسها؛ وأحست في نفسها إحساساً ليس لها به عهد؛ فتناولت قلمها لتكتب إليه:
(. . . سأستعيد ذكرك متكلما في خلوتي لأسمع منك حكاية غمومك وأطماعك وآمالك، حكاية البشر المتجمعة في فرد واحد؛ وسأتسمع إلى جميع الأصوات علِّي أعثر فيها على لهجة صوتك، وأُشرِّح جميع الأفكار وأمتدح الصائب من الآراء ليتعاظم تقديري لآرائك وأفكارك. . . وسأبتسم في المرآة ابتسامتك
(في حضورك سأتحول عنك إلى نفسي لأفكر فيك، وفي غيابك سأتحول عن الآخرين إليك لأفكر فيك. . .
(سأتخيل ألف ألف مرة كيف أنت تطرب، وكيف تشتاق، وكيف تحزن، وكيف تتغلب على عاديِّ الانفعال برزانة وشهامة لتستسلم ببسالة وحرارة إلى الانفعال النبيل. . .
(وفي أعماق نفسي يتصاعد الشكر لك بخوراً، لأنك أوحيت إلي ما عجز دونه الآخرون.