وفد الحبشة من القسس والرهبان، خشعت قلوبهم وفاضت أعينهم وأسلموا لله رب العالمين، فنزل فيهم قوله تعالى:(. . . ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين)
ولقد ظل المسلمون على هذه الفتنة الطاغية فترة من الزمن، حتى إذا استفحل الخطب وعظم البلاء، شرع الله لهم القتال دفاعاً عن النفس وذباً عن الدين، فقال تعالى:(أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)، (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير)
كان موقف الإسلام إذن موقفاً سلبياً في حروبه الأولى، لا يقصد به غير الدفاع عن أهله، ورد عدوان المعتدين. فلما استقرت قواعده، وانتهت إليه الخلافة في الأرض، كان عليه أن يقف موقفاً إيجابياً لحماية المؤمنين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)
وهذا يدل على أن الحرب في الإسلام وسيلة لدرء المفاسد وإقرار السلام، لا إرضاء لشهوة الفتح والاستعباد. وإذا كان الإسلام قد حث على الاستعداد الحربي بقوله:(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) فإنما يرمي بذلك لإطفاء جذوة الحرب في نفوس الأعداء، وهو ما يعرف في هذا العصر بالتسلح السلمي!
وهذه مبادئه الحربية شواهد ناطقة بعدله ورحمته وإحسانه، انظر إليه يأمر بالسلم إذا جنح إليها العدو، ولو كان جنوحه خداعاً ومخاتلة:(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله، إنه هو السميع العليم؛ وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله، هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين)
وما تم في معاهدة الحديبية، يدل على مبلغ حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على