واحدة، ولسبب لم تستطع مديرة الفندق أن تذكره لميشيل، لأنها لم تستطع أن تعرفه!!
وضاقت عليه الأرض بما رحبت؛ وكيف لا تضيق وقد فقد أمه وفقد هواه في أسبوع واحد؟ لقد فقد القلب الذي كان يعفو والقلب الذي كان لا يعرف. . . فقد في الأول المحبة والظل الوارف، والتسامح والرضى؛ وفقد في الثاني هذا الأمل الذي حبب إليه الحياة، وجعلها حلوة مشرقة بسامة، لأنها تضم ماريا. . . ماريا ذات الشعر الذهبي الهفهاف، والوجه المتألق المشرق، والساقين ذاتي الظلال من بنفسج الأبنين؟ أين ذهبت ماريا يا ترى؟ أين ذهب بها الشيطان فراري إن كانت قد ولت معه؟ ولماذا ذهبا معاً؟ لقد كانت تضيق به، وتشكو منه، ولا تكاد تستنشق هواء يشركها فيه؟ فأين ذهبا معاً؟ ولم ذهبا هكذا من دون أن يعلم أحد؟
وانطلق ميشيل يطوي الطريق السادرة النائمة في ظلال البلوط والصنوبر، المؤدية إلى ضاحية تيفولي، وهو ينظر بعينين موجعتين محزونتين إلى هذه الشمس الرومانية الغاربة، التي تتوهج كالجمرة الكبيرة في هشيم الطبيعة، وينظم في أعماقه ألحانه، ويستمع إلى خرير الجداول مختلطاً برنين الناقوس الكبير الذي يحيي بدقاته السماء، ويسألها للناس الرحمة. . . ولقد بدا له أن يعرج إلى هذا البيت المنيف من بيوت الله فيصلي له، ويسجد ويخبت، لعل روح ماريا تكون معه فتسجد هي الأخرى، وترق له، وتكفر عما أعرضت عنه. . . بيد أنه مضى في طريقه لا يلوي على شيء، لأن هذه فكرة واحدة من آلاف الفِكَر التي كانت لا تفتأ تطيف برأسه وهو لا يعي
واشتد خبَله، وظمئت روحه إلى ماريا ظمأ شديداً، وصار يلتمس لها المعاذير من هذا النكران الذي ما تعمدته ولا قصدت إليه لأنها لم تكن تدري ما يضمره لها من هيام في سويدائه، وظل يهتف باسمها في نومه كما يتغناه في يقظته، لكنه كان يتغنى به كما يتغنى الصوفي المجذوب أسراره. . . وهو لا يدري ما يقول!! وجلس مرة يقلب صحائف مجلة إنجليزية فوقع بصره على صورة ماريا. . . ماريا بعينها!؟ يا عجبا! ومن أين لماريا هذا الصيت البعيد والذكر المنتشر؟ إنها كانت مثله لا تعرف كلمة إنجليزية واحدة، وهذه مجلة للآداب والمسرح، وليس معقولاً أيضاً أن تكون ماريا قد التحقت بالمسرح الإنجليزي نجمة عظيمة من أنجمه، وليس معقولاً أيضاً أن تكون قد أصبحت في أيام معدودات أديبة واسعة