للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أليم؟ وآية نبله أنه مع تعصبه هذا وتشدده وتزمته في دينه كان جميل العشرة للمسلمين صادق الإخاء كريم الصنيع حسن المعونة، فكان يصوم رمضان لا تحنثاً بل تجملاً، ويحفظ القرآن الكريم إجلالاً له وعرفاناً بخطره؛ لأنه رأى فيه مهبط الحكمة ومصدر البلاغة، ومشرع اللسن والفصاحة، فظهر أثر ذلك على أسلة يراعه، وجرى على عذبة لسانه. وإليك ما يقوله أبو منصور الثعالبي في يتيمته عنه في تلك الناحية من خلقه وأدبه: (كان يعاشر المسلمين أحسن عشرة، ويخدم الأكابر أرفع خدمة، ويساعدهم على صيام شهر رمضان، ويحفظ القرآن حفظاً يدور على طرف لسانه وسن قلمه، وبرهان ذلك ما وردته في كتاب الاقتباس من فصوله التي أحسن فيها كل الإحسان وحلاها بآي من القرآن)

ومن آيات وفائه ونبله أنه كان صديقاً ودوداً للشريف الرضي حتى أتهم بأنه يدعو له بالخلافة، ويتمنى أن ينال مطمحه ويدرك مأربه، وهو لم ينف ذلك عن نفسه، بل إنه جهر به في قصيدة بعث بها إلى الشريف، وهو لا بد عالم بوقعها في نفوس أعدائه وحاسديه، ولكنه لم يعبأ بما قد يصيبه بسببها، لأنه أسير وجدانه، وينطق إذ ينطق عن شعوره وإحساسه، وما عليه إذ يرضيهما من بأس، وهذا بعض ما قاله فيها:

أبا حسن لي في الرجال فراسة ... تعودتُ منها أن تقول فتصدقا

وقد خبَّرتني عنك أنك ماجد ... سترقي من العلياء أبعد مرتقى

فوفَّيتك التعظيم قبل أوانه ... وقلت أطال الله للسيد البقا

وأضمرت منه لفظة لم أبح بها ... إلى أن أرى إطلاقها لي مطلقا

فإن عشت أو إن مت فاذكر بشارتي ... وأوجبْ بها حقاً عليك محققاً

وكن لي في الأولاد والأهل حافظاً ... إذا ما اطمأن الجنب في موضع البقا

ولقد كان مع هذا محببا إلى الخلفاء والوزراء، كلهم يطلب يده ويبتغي أن يقصر خدمته عليه دون غيره، فمنهم من كان يسلك إلى إربته طريق البذل والرفد، ومنهم من كان يطرق سبيل العقوبة والحقد، فعاش محسداً إن رضى عنه وزير غضب عليه آخر، وإن صفا له أمير جفاه خليفة. وممن اصطفاه ولم يجتوه وأحبه ولم يجفه الصاحب بن عباد، ولعل الأدب هو الذي قرب بين نفسيهما وألف بين روحيهما، فلم تقع بينهما نبوة، ولا لحق صدقتهما جفوة، فكثيراً ما بثه شكواه، واستمطر غيثه وكان موضع نجواه، ولقد كان أول أمره يأنف

<<  <  ج:
ص:  >  >>