للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وكيف يبدؤه الحديث، بل كيف يتحدث الناس في هذا الشأن؟ لقد مات أبوه منذ سنوات، والأب هو الذي يستطيع أن يتحدث بأسم ولده في مثل هذه الشئون. . . ولم يطل به التفكير في ذلك، فقد ذاع ما حسبه سراً بينه وبين صديقه حتى وصل إلى مسمع الوالد!

وزار البلد بعد ذلك ولكنه لم يسعد بلقاء حبيبته، فقد حجبوها عنه، وأقاموا بينها وبينه التقاليد، أي أغلقوا دونهما الأبواب وأرخوا الستور. قد تكون أسعد منه الآن. فهي تستطيع أن تزيح السجف لتراه كلما زارها، ولكنه لا يراها وليس إلى لقائها من سبيل! وأبتدأ الدور الثاني من أعراض الحب، وعصف الشوق بقلبه، وعبث بلبه، وسيطر على ذات نفسه. وانصرم العام لا يذكر أنه رآها في خلاله أو استمتع بها غير نظرات كجسو الطير، ما كان أفرحه باجازت الصيف! لقد كان يظن أنه يستطيع في إبانه أن يصل ما انقطع من لذاته باللقاء (عهده الأول) ولكن ما كان أبعد أمانيه. .! وضاقت نفسه بما يجد، وأحس الشوق يفري كبده، والحسرة تشوي قلبه. وانقضى الصيف، وعاد إلى القاهرة لم يتزود بتسليمة مشتاق أو نظرة وداع، وحسب أنه هناك يستطيع أن ينشد السلوة ويلتمس العزاء في جوها الصاخب، فقضى أيامه الأولى بها على شر ما يقضيها العاشق. ولكن شأنا خاصاً دعا صاحبته أن تزور القاهرة وقتئذ، وتنزل في ضيافة بعض ذوي قرباها هناك، فتجدد الأمل عنده، وأحس كأنما نسيم القاهرة أصبح ندياً عبقا بعد أن كان نارا حامية يصلاها بعيدا عن الأهل والأحباب. . وكان من حظه أن لم تجيء معها التقاليد فتلاقيا غير مرة، وخرجا للنزهة مرات، فلم يتركا بين منازه القاهرة موضعا لم يشهداه على حبهما، ثم عادت إلى البلد وخلفت له الشوق والحنين، وكلما لج به هواه وألح عليه الشوق أنس في وحدته بذكرى تلك الايام القليلة، أو خرج يلتمس العزاء هناك. . . حيث كانا يجلسان، لعله يسمع في همس النسيم صدى ما كان يتناجيان، أو يستوحي عيون الزهر سر ما استودعاه لديها من عهود الماضي، ويتسمع في خرير الماء رسالة ضلت الطريق إليه، او يتفيأ في ظلال الخمائل مجلساً طالما بسط ذراعيه وضم. هيهات! لقد صمت النسيم إلا حنين المهجور، وجف الزهر إلا عبرة الأسى، وخرس الماء إلابكاء الواجد، وسكن الشجر إلا هزة الشيخ حطمته السنون، ليته لم يلقها بعد إذ أيأسه ذلك البعد الطويل، لقد كان من يأسه في راحة!. . كيف تمر الأيام على الغريب أوحشت نفسه وأنقطع ما بينه وبين الناس؟ انه ليخيل إليه

<<  <  ج:
ص:  >  >>