أسرع ما تنضج، وما أسرع ما تقطف؛ ولكنها تنسى الشفاه التي تذوقها ذلك التاريخ الطويل من عمل الأرض والشمس والماء في الشجرة القائمة.
(لا لذة في الشجرة ولكنها مع ذلك هي الباقية وهي المنتجة، ولا بقاء للثمرة ولكنها على ذلك هي الحلوة وهي اللذيذة وهي المنفردة باسمها.
(وهكذا الرجل أغواه الشيطان في السماء بثمرة فنسى الله حيناً، ويغويه الحب في الأرض بثمرة أخرى فينسى معها الأم أحياناً!).
وتراه في فصول الثلاثة الباقية كأنما يحاول أن يروض نفسه على السلوان، ويقنعها بأن الحب ليس هو رجولة الرجل، وليس هو إنسانية الإنسان، وليس هو كل ما في الحياة من لذة ومتاع، في كلام يجريه على ألسنة شيوخه وأصدقائه: الشيخ علي، والشيخ أحمد، والشيخ محمد عبده؛ يحاورهم ويحاورونه، فنستمع في هذا الحوار إلى النجوى بينه وبين نفسه، والى الصراع بين عقله وهواه.
إن الرافعي بكبريائه وخلقه ودينه واعتداده بنفسه، لم يخلق للحب! ولكنه أحب؛ فمن ذلك كان حبه سلسلة من الآلام، وصراعاً دائماً بين طبيعته التي هو بها هو، وفطرته التي هو بها إنسان. وإنك لتلمح هذا الصراع الدائم في كل فصل من فصول السحاب الأحمر.
وفي كتاب السحاب الأحمر، تقرأ رأي الرافعي في القضاء والقدر؛ وإنه ليشعرك برأيه ذلك مقدار ما فعل به الحب وما فل من إرادته، فتراه يؤمن بأن الإنسان في دنياه ليس له كسب ولا اختيار فيما يعمل، ولكنه قضاء مقدور عليه منذ الأزل لا طاقة له على الفكاك منه؛ وإنه على ذلك لموقن بأن لله حكمه فيما قضى وقدر وإن دقت حكمته على الإفهام:
(ألا يا ماء البحر، ما أنت على أرض من الملح؛ فبماذا أصبحت زعاقاً لا تحلو ولا تساغ ولا تشرب؟ إنك لست على أرض من الملح ولكنك يا ماء البحر ذابت فيك الحكمة الملحة. . .!).
قلت في مقالي السابق: إن رسائل الأحزان عند أكثر قراء العربية هو شئ من البيان المصنوع تكلفه كاتبه ليحاول به أن يستحدث فناً في العربية لم يوفق إلى تجويده. . . لأنه بقية قصة لم تنشر معه - هي قصة غرام الرافعي - فجاء كما تأكل النار كتاباً من عيون الكتب فما تبقى منه إلا على الهامش والتعليق وصلب الكتاب رماد في بقايا النار.