- صدقت، ولذلك قلت لك إنك تقول بلسانك ما ليس في قلبك، وإنك تسلم بما لا تؤمن، وإنك تبيع للناس عظات لا تعتقد بصحتها. . . لقد كان القديس بول مؤمناً حقاً، ولذلك لم تفسد الدنيا بكل ما فيها من زخارف تعاليمه؛ وكان مثله القس اللاهوتي المتزمت، الذي قضى نصف عمره قائماً فوق عمود في أرض الفراعنة. . . أنا أجل هؤلاء واضرابهم، لأنهم يؤمنون بالشيء فيبدو إيمانهم في كل ما يصدر عنهم. . . فإذا دعا رجل الدين إلى فضيلة ولم يكن متحلياً بها، فتعساً له، وتعساً للفضيلة تخرج من فمه فتكون رغاءً. . .
وانعقد لسان الحَبْر الجليل فلم يحر جواباً. . . وأنى له أن يستذكر تعاليم مولاه التي أعطى مركزه ليبشر بها بين الناس ما دام الشيطان يملك زمامه، ويؤجج نيران الجحيم بين يديه. . . ثم أنى له أن يجسر على هذه التعاليم فيذلها لشهواته، وهو يعلم ويؤمن، أن مولاه الإله محيط به، ما تكاد تكون له نجوى إلا هو عالم بها؟! وقد طربت السينورة لما بدا عليه من بدوات الحيرة والقلق والأرتباك، فقالت له:(يبدو لي أن ذكاءك وتوقد ذهنك يسلمان بهذه القضايا، بيد أنني ألحظ أن قلبك وعاطفتك عميَّان عنها، أليس كذلك؟)
- قلبي!! أنك أنت التي توجدين ثغرة هائلة بين ذهنك وبين قلبك، بين ذكائك وبين عاطفتك. . . إني أتهمك بما تتهميني به. . .)
ثم حمل كرسياً ودنا من السينورة بحيث لم يعد يحجز بينهما إلا زاوية المكتب الفخم الذي كانت تكتب عليه، وكانت يدها الجميلة الساحرة ممتدة عليه، فبلع سيدنا الحَبْر الجليل ريقه، ووضع يده الثقيلة الملتهبة عليها. . . فقالت له:
- هذا يعني أنك. . . تحب! وأنك تجعل مني جنَّةً مقمرة لأحلامك؟!
- ولم لا! إن حبك يصلح لأن يكون جنة واسعة مقمرة لأحلام ملك!
- لأحلام ملك؟ هه! بل قل لأحلام رئيس أساقفة يا عزيزي المستر سلوب!! ولمه؟ إنكم دائماً تعسلون لنا زخرف القول أيها الرجال! وأنتم خاصة أيها الأحبار أمهر الناس في توشية الكلام. . كن شجاعاً يا عزيزي المستر سلوب وانظر إلي بمجاميع عينيك.
وكانت قد سحبت يدها الجميلة الساحرة بعيداً من يده فنظر إليها بعينيه الجائعتين المنهومتين نظرة الوامق الملتاع، ومد يده ليقبض على يدها، لكنها رمقته بعينيها الجميلتين الصارمتين وقالت له: (لقد رجوتك أن تحول حماسة يديك الجبارتين إلى عينيك الحالمتين