فوضعت النوبية إصبعها الأبنوسي في فمها المرجاني، وأنشأت تقول:
- صه! أسكتي يا صغيرتي! إياك أن تنبسي بهذا الهذر بعد فقد يذهب به طائر سوء إلى من تكرهين أن يعلمه. . . حقاً، أنا لم أنسى ما قصصت عليّ من غرام عمران الشاب صاحب الناي. . . ولكن هذا العبث لابد أن ينتهي الآن، ويجب ألا تلتقيا بعد اليوم!
- بيد أنني أحبه يا فاطمة! إنه جميل ويافع. . . وعزفه أحب إليّ وأحلى من غناء النسيم في أفنان شجرات اللوز، وصفاء عينيه أوقع في النفس من صفاء الماء النمير في الغدير. . . إن له لملمساً ناعماً كأوراق الورد يا فاطمة! أواه لو أنني زففت إليه بدلاً من صادق علي!
- حسبك! إنك إذن كنت تلقينه! والله لو علمت بهذا لفضحتك عند والدك منذ أسابيع!
وهكذا اسودت الدنيا بأسرها في فؤاد الفتاة، فلقد كانت ترجو أن تعينها فاطمة على بلواها، فانعكست الآية، وأنتشر ليل أحزانها من وجه النوبيه البغيض
لقد أحبت زبيدة عمران، وأحب عمران زبيدة، لأنهما نشآ في مهد الطفولة الناعم، وشبا على غرار الشباب الغريض، فبارك الله قلبيهما، ومشى عليهما بيده الرحيمة الطاهرة. ولما وقفا مرة قبيل حجاب زبيدة، تحت ظلال أشجار البرتقال في حديقة بيت الصائغ، نقل الأرج الحلو شذى حبهما من قلب إلى قلب، وعرفا لأول مرة سر الوجود، ونظر بعضهما إلى بعض نظرات عميقة جديدة مغرورقة بالدموع، تنسكب من أغوار الفؤاد لا من أطراف العين. . . وظلت أشجار البرتقال هيكلهما الحبيب، يتناجيان في ظله ويتشاكيان، هي في الثالثة عشرة أو في فجر الرابعة عشرة؛ وهو في الثامنة عشرة، أسود العينين، مسبل الشعر، وضاح الجبين؛ ثغره الباسم كالأقحوانة، وخده المكسو بالخمل مهيأ للقبل، وشبابه اليانع كنضرة الحديقة، وماءة حسنة تسكب نداها في روح زبيدة، القسمة الوسيمة، المفتان الحسان التي لها هذا الفم وذاك الجسم. . . تبارك الله!. . .
يا للقضاء الساخر! لقد قطف الحبيبان جنا القبلة الأولى. . . القبلة الشهية السحرية التي غيرت معالم الأرض، ودارت برأسيهما حولها. . . في صبيحة اليوم الأسود الذي تكلم فيه الصائغ مع فتاته، فصعقها بالنبأ المشئوم
لقد باتت زبيدة ليلة يا لها من ليلة، تتقلب على فراش من الشوك، وتجتر صنوفاً مهلكة من الهموم، وتطيف برأسها المتقد شهب من الأفكار تقذف روحها بالصواعق. . . حتى إذا