انبلج الفجر، وأنفلق الصباح، وثبت كالقطاة من سريرها الكئيب وطوت الدرج دون أن تنتعل حذاء يقي قدميها المعبودتين، وذلك مخافة أن توقظ أحداً من النُّوام الأشقياء، ثم انفلتت إلى الحديقة قبل أن يهتف المؤذن هتاف الصباح الرهيب:(الله أكبر! الله أكبر!) وقبل أن تنتثر أوراق الورد على جبين المشرق. . . ومضت إلى الهيكل. . . بيت المقدس الحبيب. . . إلى شجرات البرتقال، ووقفت ثمة ترتقب عمران الذي كان منها على موعد. . . ولم تبال بقطرات الندى التي كانت تهل معطرة بفغمة الورد، وعبير أزهار اللوز، وروح الزئبق والياسمين، لأنها ملائكة الحب تجبر القلوب الكسيرة، وتمسح الدمع من عيون العشاق. . .
وأقبل عمران في ظلام البعد يسكب في آذان الطبيعة النائمة موسيقاه، ويساعد المؤذن التقى بنايه الفردوسي، فتصحو البرايا وتهتف مع المؤذن ومع عمران:(الله أكبر)
وروع عمران ما رأى من وجوم حبيبته، وما لمح من لؤلؤ دمعها الذي يوشك أن ينهمر:(ماذا؟ زبيدة! ما لك يا حبيبتي؟ لقد كنا بخير أمس! فماذا؟ ما بالك باهتة هكذا كأننا في أخريات رمضان؟) ولفت زبيدة ذراعيها الحبيبين حول عنق فتاها، وجعلت تصعد آهاتها وتقول:(آه يا حبيبي! لقد كان ما لم يكن في الحسبان. لقد خطبت! وقضى أبي أن أزف إلى صادق علي العجوز الأرمل بعد شهر من الزمان!)
وتصدع قلب الوامق المحب، وبكى، وبكت معه زبيدة؛ وطفقا ينعيان أحلامهما، ويتغنيان آلامهما، ولا يدريان ماذا يصنعان. وكان الفجر الحزين يبكي معهما بدموع الندى
وجلسا على العشب المبلل ساعة، وزبيدة نائمة غارة في صدر حبيبها، وكلما حاول عمران أن يتكلم انحبس منطقه وتكلمت جفونه، ولم يملك إلا أن يغمر حبيبته بالقبل، يطبعها في شعرها المغدودن، وفوق جبينها الشاحب، وعلى صدرها المرتجف، حتى ذر قرن ذكاء، وآذنتهما بالفراق، فهب الفتى المتبول يعانق زبيدة وزبيدة تعانقه، ويقبلها وتقبله. . . ثم افترقا. . . هي كالشبح في ظلال الأشجار إلى القصر الرهيب، وهو كسير القلب، مهيض الجناح. . . إلى. . . الصحراء، لا يدري أيان يذهب
وجعلوا يسمنون زبيدة فيقدمون لها كرات الشهد معجونة بالأفاويه، ويدسمون لها السمان، ويبالغون في انتقاء الآكال. . .