وضجرت من هذه الفلسفة، فانصرفت عن العقل وتركته يهذي وحده.
وكنت قد بلغت البحر، فوقعت في حجر الطبيعة أتأمل وأناجي وأحلم. . .
لقد نفضت يدي من الناس ولجأت إلى هذه الطبيعة السخية الوفية الوادعة الجميلة أجد عندها أنس نفسي وراحة قلبي، أنظر إليها فتمحى هذه الأبعاد والمسافات، وتبدو لعيني لوحة فنية حافلة بالألوان التي لا يستطيع أبرع مصوّر أن يجمعها في لوحة. ومن لعمري يصوّر ألوان الغروب، أو ألوان الزهر في الروض أو يثبتها على لوحة بالألفاظ والأوزان أو بالأصبغة والألوان؟ إن الطبيعة أبرع في الألوان، ولكن الفن البشري أبرع في الأصوات. إن الطبيعة ليست موسيقية فنانة. . . عندها من الألوان مالا نهاية له ولكن ليس عندها إلا هدير الموج، وخرير النهر، وحفيف الأشجار، وتغريد البلابل، وسجع الحمام، وقصف الرعد. . . هذه موسيقاها، ومن هنا كانت الموسيقى أسمى الفنون لأنها ابتكار وتجديد، على حين أن الأدب والتصوير تقليد. . .
هذه الطبيعة التي أجد في حماها الحب والعاطفة والجمال، كلما لجأت إليها فراراً من الناس، وضيقا بالحياة، وما ذهبت مرة إلى بسّيمة وأطللت من (بيت طه) على هذا الوادي الصغير الذي يشبه همسة حلوة من همسات الحب، أو بيتاً بارعاً من قصيدة الجمال، إلا نسيت الدنيا كلها وأحسست أني مع حبيب قد وضع رأسه على فخدي، ونام. . . هذا الوادي الذي تجري فيه العين الخضراء لينة الأعطاف، فاتنة المحاسن، كأنها فتاة مدللة تخطر بحسنها وفتنتها على سفح الجبل، تغمز بردى بعينها وتغريه بجمالها وهو يلحقها جريا في بطن الوادي، متحدراً متكسراً كشاب قوي متين العود، جهير الصوت، قد اكتملت رجولته كما اكتملت أنوثتها، وأشجار الحَوْر (حُور كواشف عن ساق) يرقصن في عرس الفتاة المدللة والفتى القوي، رقصة الحب، يتمايلين على العروسين وقد تعانقا بعد قليل، وضم الفتى عروسه حتى اختفت بين ذراعيه، وطار بها إلى دمشق، لتكون جلوتها في الغوطة جنة الأرض. . .
وهذه الجبال الحمراء، تقوم على الباب، تحرس الوادي أن يدخله واش أو عذول يفجأ العروسين العاشقين، وتمنع الشمس الملتهبة أن تدنو منهما أو تعكر عليهما خلوتهما، فيبقى