من صفحة ١٠٤ - ٤٠٥ وفيه تفصيل ما كان بين الرافعي وطه حسين منذ بدأت الخصومة بينهما حول (رسائل الأحزان) إلى أن انتهت عند مجلس النواب حول كتاب (في الشعر الجاهلي)، وهو فصول عدة، فيها ألوان من النقد مختلفة، وأساليب في البيان متباينة؛ ففيها التهكم المر، وفيها الهجوم العنيف، وفيها المصانعة والحيلة، وفيها رد الرأي بالرأي، وفيها تقرير الحقيقة على أساليب من فنون النقد، وفيها المراوغة ونصب الفخاخ للإيقاع، وفيها الوقيعة بين فلان وفلان، وفيها الزلفى إلى فلان وفلان، وفيها العلم والأدب والاطلاع الواسع العميق، وفيها شطط اللسان ومر الهجاء؛ وفيها فن بديع طريف، فيما حكى الرافعي عن كليلة ودمنة. . .
ولكن اكثر هذه الفصول يطرد على مثال واحد إذا أنت نظرت إليه في جملته، فيبدأ كل فصل منها بأسلوب اليم من التهكم يفتنّ الرافعي فيه فنوناً عجيبة حتى يبلغ نصف المقال؛ ثم يميل إلى طرف من موضوع الكتاب المنقود، فيتناوله على أسلوب آخر هو اقرب الأمثلة إلى ما ينبغي أن يكون عليه النقد الأدبي، لولا عبارات وأساليب هي لازمة من لوازم الرافعي في النقد إذا كان بينه وبين من ينقده ثأر. . . بلى إنها نموذج عال في النقد العلمي الصحيح لولا تلك العبارات وهذه الأساليب!
كليلة ودمنة
على أن مبالغة الرافعي في التهكم قد شققت له فنوناً من المعاني والأساليب، لولا الناحية الشخصية منها لكانت نماذج لها اعتبار وقيمة في أدب الإنشاء؛ وأبدع هذه الأساليب حديثه عن كليلة ودمنة وما نحلهما من الرأي في طه حسين. وكليلة ودمنة كتاب في العربية نسيج وحده، لم يستطع كاتب من كتاب العربية أن يحاكيه منذ كان ابن المقفع، إلا مصطفى صادق الرافعي. وكانت أول هذه المحاكاة اتفاقاً ومصادفة، في مقالة من مقالات الرافعي في طه حسين؛ إذ أراد أن يتهكم بصاحبه على أسلوب جديد، فبعث كليلة ودمنة ليقول على لسانهما كلاماً من كلامه ورأياً من رأيه؛ فلما أتم تأليف هذا الفصل عاد يقرؤه، فإذا هو عنده يكاد من دقة المحاكاة وقرب الشبه أن ينسبه - على المزاح - إلى ابن المقفع فلا يشك أحد في صدق روايته، فنشره بعدما قدم له بالكلمة الآتية: (عندي نسخة من كتاب كليلة ودمنة ليس مثلها عند أحد. . . ما شئت من مثل إلا وجدته فيها؛ وقد رجعت إليها اليوم فأصبت