وكان في الدير رهبان شعراء ما ينون ينظمون في العذراء المقدسة أغانيهم باللسان اللاتيني. . . وكان فيهم زجال بيكاردي ينقل أغاريدهم إلى اللسان العامي الرشيق
شهد برنابا هذه الحماسة التي جعلت إخوانه الرهبان يتنافسون في خدمة العذراء وتقديسها، وتكريس كل ملكاتهم لعبادتها بالقلب وبالذهن وباليد وباللسان؛ فحزن حزناً شديداً، وراح يندب حظه، ويبث جهله المطبق وسذاجته وقلة معرفته، وكان يمشي مرة في ظلال الحديقة الصغيرة التي يحضنها سور الدير، فجعل يتفجع ويقول:(وا أسفاً لشد ما يحزنني ألا أستطيع أن أعبد عذرائي تلك العبادة القيمة التي يؤديها رفاقي الرهبان مع ما بذلت من حبي لها، وبرغم ما وقفت كل تقديسي عليها! ما أتعسني إذن يا أم الإله! أنا هذا الجاهل الغبي الذي يعبدك بلسان لا يعي إلا أتفه الأدعية وأحقر التسبيحات، وهو مع ذاك يرددها لا كما ينبغي. . . ويلي من غبي جاهل لا قدرة له على فن جميل، ولا عمل من ورائه طائل! أين أنا مما ينحت الناحتون للعذراء البتول، وما يصور المصورون، وما ينظم أولئك الشعراء من أغراد وأوراد! وا أسفاه! إني لا أملك من كل ذلك قليلاً ولا كثيراً!)
وهكذا ظل برنابا يتفجع ويتألم
وجلس مرة يصغي إلى رفاقه بينما كانوا يتلهون بالحديث فيما بينهم، فسمع أحدهم يقص حكاية الراهب الذي عاش عمره جميعاً لا يستطيع أن يعبد العذراء إلا بهذه العبارة القصيرة المقتضبة: سلام على مريم. . . سلام على مريم. . . يرددها في صباحه وفي مسائه، ولا يفتر عن ترديدها لسانه. . . وكان إخوانه يزدرونه لجهله وقلة عرفانه، فلما مات، وأقبلوا عليه، رأوا، ويا ما أغرب ما رأوا، أربع وردات نواضر قد خرجت من فمه، فعرفوا أنهن برزن ثمة تقديساً للأحرف الأربعة التي يتركب منهن اسم العذراء. . . وهكذا تقدس الراهب بعد موته، وبعد ما لقي من ازدراء رفاقه في الحياة الدنيا. . .
ولما سمع برنابا هذه الحكاية ابتهجت نفسه وغمر السرور قلبه وعظمت ثقته في مريم البتول الخيرة. . . بيد أنه لم يتسل بهذا المثل الجميل، لأنه كان يود لو استطاع أن يصنع مثل ما يصنع إخوانه من تقديس العذراء بالقلب واللسان وباليد. . . فراح يفكر ويفكر، ويعمل ذهنه في الوسيلة التي تنيله ما يريد. . . ولكن. . . عبثاً حاول أن يجد برنابا تلك