الشيب فجعلها سنجابية حائلة كلون السحب في أوائل الخريف. . . وكان عريض المنكبين بارز الصدر واسعه، عظيم القامة، يشغل الناظر إليه عما يلبس من غريب الثياب التي تتخذ للصيد في غاب فرنسا. . . فلا خافية النسر التي راح النسيم يداعبها فوق مفرقه، ولا الجوارب الجلدية وما فوقها من أخفاف، ولا هذه السراويل الفضفاضة التي تغطي ظهر الجواد، ولا تلك القفازات اللامعة التي تحجب يديه، ولا هذه النياشين التي تتوهج فوق صدره، والقلائد الذهبية التي تتحوى حول عنقه. . . لا شيء من هذا أو ذاك قد بهر عيني ماري كما بهرها هذا الجسد الهرقلي، وذاك الوجه الصارم، والرجل العملاق!
واقترب الجواد بمن عليه. . .
وتبسم النبيل وكأنما كانت الدنيا كلها تبتسم معه، وحيَّا ماري، ثم قال:
- (قصر فيروفلاي يا جميلتي! قصر فيروفلاي! أتستطعين أن تدليني عليه، أو تعلميني الطريق التي أسلكها لأبلغه؟ لقد ضاعت سبيلي في شعاب غابتكم المضلة، فهل لك في أن تصحبيني، يا غادة؟).
لقد نظر النبيل إلى ماري فحمد الله والصدف أن ضلت سبيله، ليلقى هذه الجنّية الريفية الحسناء في هذا الأصيل الجميل من أصائل الخريف، وفوق هذه النجوة الناضرة المطلة على الغابة الشاسعة جميعاً. . . ولقد كان يبلع ريقه مرة بعد أخرى وهو يكلمها، وكان يكلمها بعينيه الجائعتين، أكثر مما كان يكلمها بلسانه اللاهث الظامئ، وكان يحس قلبه وهو يخفق ويخفق، كأنما يبتغي أن يثب إلى عينيه ليشبع من مرأى ماري هو الآخر!! يا لسحر الجمال! لقد عجب النبيل كيف عاش عمره الطويل المفعم بلا حب، وفي الدنيا العريضة مثل هذه الفتاة التي تسجد تحت قدميها القلوب!! لقد جعل جسمه يرتجف فوق الجواد، وجعل يقلب عينيه في الفتاة التي انعكست على وجهها آراد الشمس الغاربة فصبغته بالذهب، وتركت في جبينها وخديها سَفْعاً من اللهب يشبه الشفق، يزيده فمها الصغير الخبيث اشتعالاً!
- (أوه يا سيدي! إنه هناك وراء هذا الدوح، وهو قريب جداً من هنا. . . أنظر. . . هاهي ذي أبراجه تلوح وراء الغصون العارية. . . ثم هاهي ذي الطريق واضحة بينة!).
وكانت ماري قد نهضت من مكانها وهي تقول ما تقول. وتشير بيديها، فينحسر الكُمَّان عن