للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أو قل أنه يضع بذلك نموذجا للحياة اللذيذة كيف تكون، ألا ترى أنه كيف عكف على رشف الكؤوس الحمراء ومراقصة الأغصان الخضراء:

عاظر إخلاءك المداما ... واستسق للأيكة الغماما

وراقص الغصن وهو رطب ... يقطر أو طارحالحماما

فهو لا يرى للحياة أن تنهك الأذهان بالتفكير فيها، ولا يرى لها أن تهلك المرء بالعمل لها، وليس للحياة أن نجعل من الإنسان عبداً ذليلا للجد والعمل. ولكنه يرى أن تكون الحياة ألهية جميلة يتلهى بها الإنسان عن مشاقها، ويتسلى بها عن أحزانها، ويرتاح لها، ولا يرى في الحياة ألذ من رشف الكأس الوردية، ولا أروح للنفس من مراقصة الأغصان الرطبة، ولا ألذ في السمع من مطارحة الحمام ولا أجمل في العين من ألوان النور في الصباح والمساء في الروضة الغناء، فابن خفاجة لا تطيب له الحياة إلا عند شواطئ الجداول والينابيع وتحت ظلال الأدواح، وبين الأباريق والأقداح انظر إليه كيف يقول:

أمالديك حلاوة ... أما عليك طلاوة

طايب وداعب ولاعب ... واترك سجايا البداوة

فكأن حياة الجد وطبيعة الانقباض والوحشة لا توافق مذهبه أو قل لا تتشابه ولا تتجانس مع طبيعته التي تتعشق السرور ونفسه التي تحب اللهو والعبث.

لم يبق بعد هذا من شك في أن طبيعة الرجل كانت طبيعة سرور وطرب، بل كانت فوق ذلك طبيعة متفائل يهزأ بمصاعب الحياة وليس من شك في أن نفسه كانت تميل إلى الهزل وتميل إلى العبث، بل ليس من شك في أن حياته كانت حياة مستهتر يهرب من وجه الحياة العابس إلى وجهها الضاحك، فلم يتول عملا من الأعمال العامة. ولم يتصد لمدح الأمراء والوزراء والملوك على كثرة تهافت العلماء عليهم، وعلى حاجة الملوك إلى أمثاله.

هنالك ملاحظة أخرى: هي أن ابن خفاجة كان على علمه وفقهه لا يشتغل بالعلم ولا بالفقه، ولعله كان يعتقد أن للعلم فضيلة في ذاته وان على الإنسان أن يتعلم العلم لا ليجعله آلة تدر عليه المال، بل كان يعتقد أن العلم جمال لأهله وزينة لهم. ومثل هذا الاعتقاد نجده في قوله:

درسوا العلوم ليملكوا بجدالهم ... فيها صدورمراتبومجالس

<<  <  ج:
ص:  >  >>