أن تلاحظ إلى أي حد بلغ غرام ابن خفاجة بالطبيعة وحبه لها. وأنظر إليه كيف يصف ما فعل بهم الطرب وكيف يشبه الهلال بالطوق المذهب:
واهتز عطف الغصن من طرب بنا ... وأفتر عنثغرالهلالالمغرب
فكأنهوالحسنمقترنبه ... طوق على برد الغمامة مذهب
فهو يشبه اهتزازهم من شدة الطرب وقت المساء الساحر بالغصن يهتز وينعطف، ثم شبه الهلال الذي ابتسم عند المغرب بطوق ذهبي على برد الغمامة. وقال يصف الصباح الرائع:
والصبح قد صدع الظلام كأنه ... وجه مضيء شف عنه قناع
فقد شبه نور الصبح حين ينتشر فيمحو ظلمة الليل بوجه وضاء شف عنه قناع رقيق. ويصف الصباح في غير موضع فيقول:
وقد مسح الصبح كحل الظلام ... وأطلع فود الدجى أشيبا
فكما أن الصبح المضيء والدجى المظلم من مناظر الطبيعة فكذلك كحل الظلام وفود الدجى الأشيب صورتان عن الليل المظلم والصباح المنير، ويقول في تشبيه الظلام بالكحل والقطر بالعبرات
يجول للغيم كحل ... فيه وللقطر عبره
فلم يخرج في تشبيه الغمامة الدكناء والأمطار الهاطلة عن كحل الكاحل وعن العين المستعبرة، ويشبه خيوط الشمس الذهبية في المساء، ولون الماء الصافي فيقول:
والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء
والذهب الأصفر واللجين الفضي كلها ألوان طبيعية: فكأن ابن خفاجة يحتقر الصناعة ويحتقر ألوانها، فلا يشبه مناظر بلاده التي يراها إلا بمناظر وألوان طبيعية، ولا يصور الطبيعة إلا بألوان وأدوات طبيعية، أو قل أنه رأى أن الصناعة والحياة الاجتماعية أقل مناظر وأقل ألوانا من الطبيعة، فمال عنها إليها يمتع الطرف ويقول الشعر ويصف الشيب والشباب فيقول:
فأحسن من حمام الشيب عندي ... غراب شبيبة ألف النعيبا
فهو يشبه الشيب المخضب بالحناء بالحمام، ويشبه شعر رأسه الأسود في زمن الشباب