أشعاره عن الخدود والعيون والنحور والثغور، ولا ينبغي له أن يتفجع على مواسم الروح في مصر الجديدة والزمالك. ولكني أحسنت الظن بالناس فانطلقت أشدو وأترنم، فكان جزائي أن أعيش عيش المشردين بين القاهرة وباريس وبغداد
تذكرت وتذكرت لو تنفع الذكرى!
تذكرت العيادة الجميلة التي أقمتها في شارع فؤاد بعد أن خُرِّبت عيادتي بشارع المدابغ بسبب السيدة (ن)، وكانت عيادتي بشارع فؤاد تبشر بمستقبل رائع، فقد كانت مجهزة على أحدث طراز، وكان فيها ممرضة جميلة تخلب عقول النساء قبل أن تخلب عقول الرجال؛ ولكن الله ابتلاني بطائفتين من الناس كانوا السبب في خراب تلك العيادة الفيحاء: الطائفة الأولى جماعة الأصدقاء الذين يرون من حقوق الصداقة أن أداويهم بالمجان. أما الطائفة الثانية فهم الأدباء الذين جعلوا عيادتي سامراً يلتقون فيه كل مساء. وفي تلك العيادة تألفت رابطة الأدب القديم وجمعية عطارد وأصدقاء أفروديت. وفي تلك العيادة قامت المعارك بين القديم والجديد، وفيها نظم أول مؤتمر لكليات الجامعة المصرية، وفيها أسست نقابة المحبين
وما لي أكتم حقائق التاريخ؟ إن هذه المذكرات لن تنشر في حياتي، ولن يراها الزيات ولا غير الزيات. فلأدون فيها كل شيء وليقل الناس بعدي ما شاءوا؛ فسأكون في شغل عنهم بما أعد الله للأشقياء من نعيم الفراديس. وهل يُرضي الله في كرمه أن نشقى في الدارين؟
كانت عيادتي بشارع فؤاد هي الملاذ لكل أديب لا يجد في جيبه خمسة قروش يجلس بها جلسة لطيفة في مشرب. . . أو مشرب. . . أو مشرب. . . ولا موجب لذكر أسماء هذه المشارب فأصحابها لئام لا يستحقون الإعلان، وأخشى أن يعيشوا بعد أن أموت. أليس فيهم الرجل اللئيم الذي استقبل في حانته صديقي. . فلما انصرف سألني عن اسمه فطويته عنه. وكان اللئيم يريد أن يعرف ما هو اسم ذلك الشاب الذي يخاصر تلك الشقراء؟ وكان ذلك الصديق من كبار الموظفين بوزارة. . .
إن القاهرة ليس فيها مشرب أمين يلقى فيه الرجل حبيبته وهو في أمان من عيون الرقباء
وهذا الكلام الذي أدونه في مذكراتي هو السبب في خرابي، فأنا طبيب دقيق الإحساس، ودقة الإحساس في زماننا من أشنع العيوب. ومن حسن الحظ أن هذا الكلام سيُطوى إلى حين، لأني سأدفن مذكراتي بالمكتبة العامة في بغداد، ولن يطلبها مجلس كلية الآداب