للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولولا الطب ما شرفتني الحكومة المصرية بمداواة ليلى المريضة في العراق

أقول إني ذهبت إلى كلية الطب بعد أن صقلتني التجارب، وبعد أن عرفت أن من العيب أن أخيب في باريس وأنا شاعر سنتريس؛ فلم تمض أيام حتى كنت في تلك الكلية فتى الفتيان. وبيان ذلك أني كنت أخفي عواطفي كل الإخفاء، فكنت ألقى الفتاة فلا أحدثها عن عينيها وخديها وشفتيها ونهديها - وما أجمل نهود الفتيات في باريس! - وإنما كنت أسارع فأتحدث عن حدائق الحيوانات في القاهرة وأقول إنها أجمل ما يعرف العالم من حدائق الحيوان. فان اعترضت إحدى الفتيات وفضلت حدائق الحيوان في لندن تحمست وقلت إن هذا مستحيل، لأن مصر هي البلد الوحيد الذي يطيب فيه العيش لأنواع الحيوان!

وما كنت أكتفي بهذا، بل كنت أخترع أسماء وهمية للباحثين والمفكرين، فكنت أقول إن بلدنا هو الذي نبغ فيه فلان وهي أسماء تحلى بها بعد ذلك بعض الناس!

وفي أثناء تلك الأحاديث الوهمية تجول عيناي في أعطاف الفريسة الحسناء، فان بدا لها أن تعترض علي ما تقول عيناي، أنكرت ما تقول عيناي، وهل كنت مسئولاً عما تقوله عيناي؟ وما هي لغة العيون؟ وهل للعيون لغة؟ إنْ هذا إلا اختلاق!

وما زلت أوغل في المداهنة والنفاق حتى تقدمت إحدى الفتيات وقالت: ما أجمل عينيك يا مسيو مبارك! فتكلفت الغضب وقلت: أنا اكره المزاح! فطوقتني بذراعيها وقالت: أنا أحب الشبان العقلاء! فقلت: وأنا أحب المجانين من الفتيات؟ وكانت لحظة ستنصب لها الموازين يوم يقوم الحساب!

وفي ظلال هذا الروح الطيب مضيت لعيادة ليلى، وقد صممت على الخوض في أحاديث لا تتصل بالحب. وما قيمة التجارب إن لم تنفع وأنا في ديار الاغتراب؟

دخلت على ليلى في ليلة مطيرة غاب فيها القمر وغابت النجوم، فتفضلت حرسها الله ومدت يديها الناعمتين لمعاونتي على دَرَج السلالم، فشعرت كأن خيوطاً من نور تجذبني إلى العِلِّية، وقد تكلفت التعب والضعف لأرى كيف تجذبني تلك الأنامل الرقاق. وكانت لحظة سحرية لا يعرفها إلا من أسدلت عليه الستائر في ليلة قمراء بالقصر الذي يعرفه القلب في الشارع رقم. . . بالضاحية. . . إحدى ضواحي القاهرة الفيحاء

رباه! إن القاهرة نعمة من نعمك على عبادك، فاجعلها عامرة أبدا الآبدين، واجعلها إلى يوم

<<  <  ج:
ص:  >  >>