في الطغيان والاستئثار بكل السلطات، وهذه الزعامة ذاتها تستتر وراء فكرة الدولة؛ ولم يبق للفرد اليوم وجود في ظل هذه النظم المطلقة، ولم يبق له شيء من الحقوق أو الحريات العامة، فهذه كلها تفيض وتنمحي في شخص الدولة؛ والدولة أو أولئك الذين يعملون باسمها يضعون أيديهم على مصاير الأمة أرواحها وعقولها وجسومها وكل ما ملكته أيديهم، ويتخذون من التسريع المدعم بالقوة القاهرة سلاحاً لفرض كل تجاربهم الإصلاحية على الشعب، ويزعمون أن مناهجهم الإصلاحية هي السبيل القويم لتحقيق عظمة الأمة وخير الشعب؛ وقد يعتمدون في هذا السلطان فضلاً عن قوة الجيش العامة على صفوف حزبية كثيفة من الشباب المسلح المدرب على أساليب العنف؛ وتسيطر هذه التجارب والمحاولات الإصلاحية على حياة الفرد الخاصة فضلاً عن الحياة العامة، فترسم له خطط أعماله وتفكيره واعتقاده واتجاهاته وتصرفاته كلها دون أن تكون له إرادة الاختيار أو المعارضة، وتجري هذه المحاولات جميعاً باسم الدولة التي تقبض عليها الزعامة المتربعة في دست الحكم
وهذه الزعامة المطلقة العاملة باسم الدولة هي بعينها (أمير) مكيافيلي، واستثارها وراء فكرة الدولة إنما هو نوع من النفاق السياسي الذي أوصى به مكيافيلي
وكما أن المكيافيلية تبدو واضحة أيضاً في السياسة الداخلية لهذه الدول المطلقة، فهي تبدو واضحة أيضاً في السياسة الدولية الخطرة التي تجري عليها هذه الدول في تنظيم علائقها مع الدول الأخرى؛ فالقوة في نظرها هي أساس الحق والعهود، والمواثيق الدولية لا قيمة لها في نظرها مادامت لا تتفق مع مصالحها ومراميها. وهذه هي الصورة الحديثة لمبدأ مكيافيلي في قوله:(إن الأمير كثيراً ما يرغم لحفظ الدولة على أن يتصرف بغير ما يقضي به الإخلاص والصداقة والإنسانية والدين) ولقد رأينا إحدى الدول العظمى تلغي ما بقي من تعهداتها في معاهدة الصلح، وتنكر ما وقعته من مواثيق دولية لصون السلام بحجة أن هذه النصوص والعهود تصطدم مع مصالحها الوطنية ولم يبق اليوم مبرر لبقائها بعد أن تغيرت الظروف التي أبرمت فيها، ولم تفعل ذلك إلا بعد أن آنست من نفسها قوة تدعم بها خطوتها. بيد أن الروح المكيافيلية تبدو بنوع خاص في اعتداءات بعض الدول القوية على الدول الضعيفة وغزوها أو استعمارها، وقد كان غزو الفاشستية للحبشة والاستيلاء عليها