بألفاظه وأسلوبه كما تغذى بمعناه وروحه، وإنك لتلمح أثر ذلك واضحاً جلياً في تعابيره خصوصاً إذا ما تحدث عن معاني الإسلام تعمر القلوب، وسمو الإيمان يغمر الأرواح والنفوس. أنظر إليه وهو يصف الحجاج محرمين في طريقهم إلى مكة فيقول: طبع هذا المنظر أعمق الأثر في نفسي فهذه القوافل من المشاة والركبان تقصد إلى غاية واحدة وترجو في ربها الرجاء الأسمى. . . ليس يذكر أحدهم ما له من ثروة أو جاه أو ولد، وإنما يذكر أنه هو وهؤلاء المسافرين معه أخوة في الله وأنهم جميعاً قد أتوا قاصدين بيته، ملبين داعيه، ليشهدوه على أنفسهم وليطهروا بين يديه مما قدمت أيديهم، وليبدؤوا بذلك حياة جديدة يبتغون فيما أتاهم الله الدار الآخرة، ولا ينسون نصيبهم من الدنيا ويحسنون كما أحسن الله إليهم، ولا يبغون الفساد في الأرض. لهذا جاءوا من كل فج عميق، ولهذا ركبوا البر والبحر واستهانوا بالمشقة ونسو كل شيء إلا الله، ولهذا أحرموا آية إخائهم ومساواتهم إيذاناً بأن أقربهم إلى الله أتقاهم، ومظهراً لميلادهم الروحي الجديد، ليتخذوا من هذا الميلاد عدتهم لحياة جديدة، ولهذا تتصل قلوبهم وإن اختلفت أجناسهم وألوانهم ولهجاتهم، وهم يعبرون عن هذا الشعور بالتلبية تنفرج عنها شفاههم في حبور وغبطة مطمئنين إلى رحمة الله ومغفرته، إنه يغفر الذنوب جميعاً، لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
فهيكل كما ترى مولع بآيات القرآن يقتبسها لأسلوبه؛ ويقحمها في عباراته، ويستخدمها استخداماً طلياً منسجماً يدل على مهارة وتمكن. ولقد بلغ من ولعه بألفاظ القرآن أن آثر كلمة (طوّع) على مرادفتها في الأستعمال، فعبر بها مراراً إلى حدّ يلفت النظر، حتى أنه ليستخدمها في مواضع قد تكون مرادفاتها أولى بها، وقد لا تؤدي المعنى إلا على شيء من التسامح، ولكن هيكلاً يؤثرها لأنها لفظة قرآنية فهي حلوة سائغة. وإن من العجيب حقاً أن يؤثر هيكل ألفاظ القرآن كل هذا الإيثار، وأن ينتفع بأسلوبه إلى هذا الحد الذي يفوق فيه أولئك الذين شبوا على مدارسة القرآن، وقضوا أعمارهم في مزاولة عباراته والبحث في نصوصه على حين أنه قد نشأ نشأة مدنية كما يقولون، وتثقف ثقافة تتصل بالغرب أكثر مما تتصل بالشرق، وما آثاره الأولى إلا لون من ألوان تلك الثقافة الأجنبية. وإنما يسر لهيكل أن يندمج في حياته الروحية كل هذا الاندماج، وأن يتصل بثقافة القرآن وأسلوبه كل هذا الاتصال، أنه ذو موهبة فنية، وطبيعة أدبية صافية، والأديب إذا ما صفت طبيعته،