رحلة الحياة الشاقة ببرد الراحة، ويقع من نفوسنا اللاغبة موقع الماء العذب من نفس الصادي في اليهماء القاحلة، ولا شك أننا لو طاوعنا هؤلاء الناس وجعلنا العقل كل شيء لصارت الحياة جحيما لا تطاق، ولفررنا من شقائها كما يفر الناس في هذه الأيام بالموت والأنتحار، بل ولتمردنا على كثير من النظم والأوضاع والشرائع الطيبة الصالحة التي تكفل السعادة للمجتمع، والتي لا يمكن أن يجحدها الماديون أنفسهم، وأنت أبقاك الله تأمل في نفسك ساعة وانظر فيما يحف بك من النظم الاجتماعية والقيود الثقيلة التي تربطك بالمجتمع الذي تعيش فيه، والسلاسل والأغلال التي تثقل جيدك وتنقض ظهرك من واجبات نحو الأسرة والأب والأم والزوجة والوطن والدين والتقاليد وفكرات الشرف والعرض وما إلى ذلك، واستسلم إلى العقل وحده وانزل على حكمه في تلك الأمور عامتها تجده يجيبك عليها جواباً لا يرضاه العقل نفسه، لأن الطبيعة قد خصت الإنسان بشيء يمتلك ناصية عقله ويتحكم فيه التحكم كله، شيء آت من الناحية الروحية القلبية التي هي مصدر العواطف والمشاعر والتي هي مسيطر عليها، وإذن فالعقل ليس كل شيء في الحياة كما يزعم الماديون، وعبثاً حاول بعض الفلاسفة أن يجعلوا العقل حد الدين، وأن يشرعوا للناس المذاهب الفلسفية النفعية، فنشروا كتباً (في دين الطبيعة) لتأييد مذهبهم، وموهوا على الناس إذ زعموا أن العلم ينافي الدين، فوقع الإنسان في مأزق من مآزق البعد عن الشريعة الأدبية كاد يتداعى معه أساس المدنية، حاول هؤلاء أن يجدوا في عقل الإنسان وحده هادياً ومرشداً أميناً بصفته فرداً صالحاً من مجموع إنساني، يختط له خطة من السلوك والأخلاق جديرة بأن تحفظ نظام الهيئة البشرية التي يجب أن تقوم على أساس من الإحساس الأدبي، أخفقوا سعياً وضلوا سبيلاً، لأن الطبيعة لم تحبُ الإنسان بشيء من هذا. رجع الناس بعد ذلك مؤمنين بأن وازع ما بعد العقلية، أول عنصر من عناصر المعتقد الديني بل نواته، وأنه الضابط الذي يضبط علاقة الفرد بالجماعة في كل حالة من الحالات
ولكن أي لون من ألوان هذه الحياة الروحية يجب أن يختار الشرق حتى يفوز بالغاية؟!
يرى بعض المفكرين في مصر أن لون الحياة الغربية هو اللون الصالح، فراحوا ينقلون للشرق آثار الغرب في ذلك ما وسعهم النقل؛ وقد كان هيكل على هذا الرأي من قبل، ولكنه خرج عليه إذ لمس فيه الخطأ الواضح، وهو يتحدث عن ذلك فيقول: (لقد خيل إلي زمناً -