دون التزام بكتاب واحد وإنما يستعرضون المذاهب في المسألة وينقدونها من جميع وجوهها على ضوء حرية الفكر ثم يرجحون ما يختارونه من الآراء، وهنا يقضي الطالب عدة سنوات حتى يدرك درجة الاجتهاد وهي ملكة يقتدر بها على استنباط أحكام الشرع لشريف من مصادرها، حينئذ يمتحنه مجتهدوا عصره ليعطوه إجازة الاجتهاد وهي الشهادة العليا. وفي السنين الدراسية الأخيرة يتجه البعض إلى دراسة الكلام والفلسفة الإسلامية فيدرس فيهما (شرح المنظومة) للسبزواري و (شرح التجريد) للعلامة الحلي و (شرح إشارات ابن سينا للخواجه نصير الدين الطوسي و (أسفار) ملا صدرا و (الشوارق) لعبد الرزاق اللاهجي و (الشفاء) لأبن سينا. والحق أن جوامع النجف الأشرف تدرس الفلسفة الإسلامية بتوسع لا مزيد وراءه. كنت أدرس شرح إشارات ابن سينا لدى شيخ فارسي يدعى (الدامغاني) فكان يتمعن في تدقيقه فلا يدرس في اليوم أكثر من نصف صفحة أو ربعها بالرغم من أن الدرس يستغرق ساعة أو أكثر وكنا نذهب إلى داره بعد الظهر بقليل وذلك في صيف النجف الأشرف تكليف شاق لا يطاق لشدة الحرارة في هذه البقعة الجافة. في هذه البلدة الجاثمة على حدود الصحراء العربية الملتهبة بضرام حصاها ولا سيما أني كنت أخرج من سراديب مدرسة السيد كاظم اليزدي التي تتوغل عميقة في الأرض حيث تغوص بك في مناخ بارد شتوي يضطرك إلى الالتحاف بما يقيك أذى البرد القارس. ولربما يتذكر تلك السراديب الأستاذان الزيات وأحمد أمين وصحبهما فقد أنزلت الوفد إلى سراديب المدرسة وحملت له المصباح وجلنا في أحشاء هذا المعهد العلمي. ولكم أعجبت تلك السراديب السياح فكتبوا عنها الكثير وهي ابتكار لطيف في التغلب على الطبيعة القاسية والتمرد على عذابها - ولكن أستاذي الدامغاني كان أقسى. فكم أجهدنا في خوض معارك الفلاسفة الدامية يقذف بنا في جحيم الخصومة العنيفة بين الخواجه نصير الدين الطوسي وبين محمد بن عمر الخطيب الرازي وكل منهما شارح للإشارات، ولكني ابتليت قبله بأستاذين درست عليهما الفلسفة في حلقتين كبيرتين تضم العراقي والفارسي والتركي والسوري الخ كأنها سفينة نوح في الأساطير، كان كل من هذين الأستاذين مفتوناً بسعة إطلاعه في المذاهب الفلسفية وما نسجه العقل البشري من أحابيل وأضاليل وما كشف النقاب عنه من حقائق ناصعة فكانا غفر الله لهما يركضان بنا في ميادين واسعة من أفكار