في القرى، ومن الفقر والبؤس بين الفلاحين، ومن القلق والشقاء بين المدائن والحواضر. ذهبت حروب نابليون وأعداء نابليون وخلفت وراءها ندوب الويل والهلاك على وجه كل بقعة من هاتيك البقاع: فموسكو في الرماد، والبلاد الإنجليزية على ما أصابها من فخر الانتصار قد مُني فيها الفلاحون بكساد القمح وغلات الزراعة، ومُني فيها صناع المعامل بكل ما يبتلى به الصناع في معمل لا رقيب عليه ولا حسيب، وزاد تسريح الجنود في نكبات البطالة. وروي كارليل عن أبيه في تلك الآونة أن العمال كانوا يذهبون يومئذ فرادا إلى البرك والجداول يملأون بطونهم بالماء بدل الطعام ولا يعنيهم إلا أن يستروا ما بهم من الضنك عن الآخرين. ما كانت الحياة قط أفرغ من معنى ولا أخس مما كانت يومذاك)
هذا منشأ الفلسفة الشوبنهورية من أحوال السياسة وأطوار الدول والمجتمعات. ولهذه الفلسفة منشأ آخر من أطوار الفكر والعقيدة لا يقل في أثره عن حروب نابليون وهزائم الجيوش، وذاك هو شيوع الشك في العقائد والأديان والأمثلة العليا بين الأوربيين بعد عصر النهضة العلمية وعصر الثورة الفرنسية، فلا أمل في الدنيا ولا في الآخرة، ولا معنى للسعي ولا للقعود، ولا خير في التفكير ولا في التسليم، ولا مناص بعد ذلك من ترجمة هذه الحالة في فلسفة منظمة منسوقة مقنعة كتلك التي بشر بها صاحبنا رسول التشاؤم ونذير الفناء
أي حالة هي أشبه بحالة الشاب القارئ في أوائل القرن العشرين من حالة ذلك العصر أو حالة ذلك الانتقال؟
كل شاب يخرج من حظيرة البيت إلى معترك العالم فإنما يخرج من دنيا أحلام وظنون إلى دنيا صراع لا هوادة فيه، ولاسيما في أوائل القرن العشرين حيث كان للعقائد سلطان، وكان للأمثلة العليا بين الشرقيين خاصة مجال لم تضيقه الحقائق والتجاريب
لهذا كان بين شوبنهور وكثير من الشبان القارئين عندنا نسب قريب في أوائل هذا القرن العشرين. ثم تقلبوا مع الحياة فنسوه بعض النسيان من أثر الواقع تارة ومن أثر التشاغل تارات، أو من أثر التصحيح والتهذيب الذي لا محيص عنه مع تعاقب الأيام وتعدد القراءات
فلما قيل إن العالم سيحتفل بميلاد إمام المتشائمين كان في القول ما يشبه الفكاهة والدعابة؛ ولو قيل إن العالم سيحتفل بيوم وفاته لكان في القول بعض المجاراة لموضوع الاحتفال