النزعات، فتتحمل أعباء هذا النضال بمفردها بطبيعة الحال
أما منشأ هذه النزعات المعادية للوطنية فهو الآراء والمذاهب الفلسفية والاجتماعية التي تعتبر الوطنية من (النزعات البالية المضرة) فتدعو الناس إلى نبذها والتخلص منها
لعل أقدم هذه الآراء والمذاهب هي الفكرة التي تعرف في بلاد الغرب باسم الـ (كوزموبوليتيه) بمعنى (مواطنية العالم) - أو بتعبير أقصر (العالمية) - هذه الفكرة تدعو الناس إلى الترفع عن (النزعات الوطنية الخاصة) وتطلب إليهم أن ينزعوا إلى (حب العالم) دون أن يفرقوا بين مختلف الأوطان
أما الملاحظات التي تستند إليها (فكرة العالمية) فيمكن أن تلخص بهذه الكلمات:
ما لفرق بين الأوطان المختلفة؟ ألم تكن كلها من أجزاء الأرض التي نعيش عليها؟ وما قيمة الحدود التي تفصل الأوطان بعضها عن بعض؟ أفلم تكن كلها من الأمور الاعتبارية التي أوجدتها الوقائع الحربية أو المناورات السياسية؟ وما الفرق بين الأمم المختلفة؟ ألم تنحدر كلها من أصل واحد؟ أفلا يجدر بالإنسان - وهذه هي الحال - أن يسمو بأفكاره وعواطفه فوق الأوطان وفوق الأمم، فيعتبر الأرض بأجمعها (وطناً) كما يعتبر أبناء البشر بأجمعهم (مواطنين)؟
لقد مر - في الحقيقة - في تاريخ حياة البشرية عهوداً طويلة، كانت فيها (الرابطة الوطنية) ضيقة محدودة لا يتعدى نطاقها أسوار بعض المدن. كما كانت فيها الرابطة القومية محدودة المدى، لا يتجاوز تأثيرها حلقات بعض القبائل. فقد شهد التاريخ (الدور) الذي ارتفعت فيه الحدود من بين المدن التي كانت متحالفة، وانتفت فيه الضغائن من بين القبائل التي كانت متعادية. . . فتوسعت فيه فكرة الوطنية والقومية إلى ما وراء حدود المدن ونطاق القبائل، فوصلت إلى الحدود التي نشاهدها في الحالة الحاضرة. إن سلسلة التطورات التي حدثت بهذه الصورة إلى الآن، تدل على أن هذا التوسع سيستمر على الدوام، فسيأتي يوم تندمج فيه الأوطان المختلفة بعضها في بعض، إلى أن يصبح (العالم)(الوطن المشترك) لكل الناس، كما تمتزج فيه الأمم المختلفة بعضها ببعض إلى أن تصبح (الإنسانية) بمثابة (القومية المشتركة) بين جميع أبناء البشر. وأما (النزعة الوطنية) التي نعرفها الآن فستزول حتماً بتقدم البشر وتسامي العواطف، وستترك محلها لعاطفة إنسانية،