(إن بعض الناس يحبون أبناء الصين، لكي يخلصوا من الواجبات الفعلية التي تترتب عليهم من جراء حب أبناء وطنهم الأقربين)
وعلى كل حال يمكننا أن نقول: إن فكرة (العالمية) انتشرت في القرن التاسع عشر انتشاراً كبيراً بسبب تشوق المفكرين إلى الكمال الخيالي من جهة. . . وبدافع ميل الناس إلى التخلص من ثقل الواجبات الفعلية من جهة أخرى
وهذا الانتشار صار عظيماً في البلاد الألمانية بوجه خاص؛ أولاً: لموافقة الفكرة لروح الفلسفة السائدة بين مفكري الألمان عندئذ، وثانياً: لعدم اصطدامها هناك بنزعة وطنية قوية بسبب انقسام الأمان إلى دويلات كثيرة، واشتباك منافع هذه الدويلات وأمرائها اشتباكاً يحول دون نمو النزعات الوطنية والقومية نمواً سريعاً. . . إننا نجد في إحدى الكلمات التي كان قالها المفكر الألماني (شله يجل) دليلاً قاطعاً على ما أسلفناه؛ فقد قال: من العبث أن نحاول تكوين أمة ألمانية، فالأجدر بنا أن نأخذ بالفكرة العالمية، ونخدم الإنسانية. . .)
واستمر الحال في البلاد الألمانية على هذا المنوال حتى غزوة نابليون وهزيمة (يه نا). . .
ولاشك في أن الانهزام الهائل الذي مني به الجيش البروسي في واقعة (يه نا) كان من أبرز نتائج ضعف النزعة الوطنية وانتشار الفكرة العالمية. . . فإن الجنود كانوا ينهزمون من ساحة القتال تاركين أسلحتهم فيها دون أن يحاولوا استعمالها لصد غارة العدو الزاحف إلى بلادهم
غير أن كل ما حدث بعد ذلك بدد الأحلام العالمية والأماني الإنسانية التي كانت مستولية على النفوس. . . وأظهر لكل ذي عين بصيرة الفروق الهائلة بين (الوطن) الذي ينتسب إليه وبين غيره من الأوطان. . . وبين (الأمة) التي ينحدر منها وبين غيرها من الأمم. . .
فإن الذين كانوا انهزموا من ميدان القتال دون أن يستعملوا أسلحتهم لصد غارة الجيوش الأجنبية اضطروا - بعد بضع سنوات من تاريخ الواقعة - إلى الانخراط في سلك الجيوش المذكورة ليخدموا مآرب قائدها الخاصة. . . إنهم أرغموا على التجنيد وعلى العمل تحت إمرة قواد فرنسيين ليحاربوا - رغم أنوفهم - الدول والأمم التي أراد زعيم الفرنسيين الاستيلاء عليها دون أن يكون في كل ذلك أدنى مصلحة لهم ولوطنهم الخاص ولأمتهم الحقيقية. . .