وهكذا قد شاهد مفكرو الألمان بأعينهم أنه بينما كانوا يغطون في أحلام الإنسانية والعالمية استولت على بلادهم جيوش أمة بعيدة عن تلك الأحلام، ومتشبعة بروح الوطنية بأشد وأحد أشكالها، فأخذت تلك الأمة تسيطر عليهم وتستعبدهم، وتذيقهم أنواع الذل وتسوقهم إلى حيث تريد. . .
فكان من الطبيعي أن تنقلب الآراء والنزعات في ألمانيا انقلاباً هائلاً تحت تأثير الدروس القاسية التي ألقتها هذه الوقائع والنكبات. . وفي الواقع لم يمض على واقعة (يه نا) مدة طويلة، حتى تركت الفكرة العالمية محلها لحماسة وطنية شديدة ويقظة قومية جبارة. . . وهذه الحماسة الوطنية واليقظة القومية هي التي أدت إلى نهضة بروسيا المعلومة، وخلصتها من نير الفرنسيين ثم قادت الأمة الألمانية بأجمعها نحو الاستقلال والوحدة والقوة والعظمة. . .
ومن المفيد لنا أن نتتبع هذا التطور العميق فيما قاله وكتبه البعض من مفكري الألمان أنفسهم في ذلك العهد. . أود أن أذكر لكم مثالين بارزين: أحدهما من الحكماء وهو (فيخته) والثاني من الشعراء وهو (آرنت)
عندما يذكر اسم - فيخته - في ألمانيا، يتبادر إلى الأذهان الخطب الحماسية التي وجهها (إلى الأمة الألمانية) خلال أيام النكبات التي بحثنا عنها، تعتبر هذه الخطب من أهم عوامل النهضة في ألمانيا، ومن أقوى موجهات القومية فيها. . .
ألقى فيخته خطبه الأربع عشرة في مدرج جامعة برلين، عندما كانت الجيوش المحتلة تقوم باستعراضات متوالية في شوارع العاصمة البروسية وميادينها. . . تحتوي هذه الخطب على نظرات فلسفية في تاريخ حياة الأمة الألمانية، وأبحاث شيقة عن الحيوية الكامنة فيها وعن وسائل التربية التي تكفل تجديد حياتها. . . وكل هذه النظرات والأبحاث ترمي إلى غاية واحدة، هي استنهاض الهمم في سبيل بعث الأمة الألمانية، وإعادة بناء مجدها. .
إن خطب فيخته تنم عن روح وطنية متأججة، وتدعو إلى نزعة قومية متعصبة، ولاسيما الخطبة الختامية، فإنها تعتبر آية من آيات التحميس والاستنهاض. يوجه (فيخته) في خطبته هذه بعض الكلمات إلى الشباب، ثم إلى الكهول، ثم إلى رجال الدولة والمفكرين والأدباء، وأخيراً الأمراء، مصدراً كل واحدة من هذه الكلمات بقوله: (إن خطبي تستحلفكم