على قوة جسمه مضرب المثل في دماثة الخلق وعفة اللسان واليد، وكان حديث القوم في أمانته ونزاهته وسمو أدبه. تحدثت عنه زوج أبيه مرة فقالت:(لم يوجه إلى مرة كلمة نابية أو نظرة جافة، ولم يعص لي أمراً قط سواء أكان ذلك في مظهره أم في حقيقة أمره) ويروي عنه أنه استعار من أحد الجيران كتاباً عن وشنجطون لمؤلف آخر فأقبل عليه يطالعه حتى جن عليه الليل فوضعه في شق بين الكتل الخشبية في أحد جدر الكوخ فبلله المطر، فلما رآه في الصباح اشتد أسفه وحمله إلى صاحبه، وهو لا يقوى على الوقوف أمامه من شدة الخجل، ولا يدري كيف يعتذر! ثم بدا له فعرض على صاحب الكتاب أن يدفع ثمنه، وكان ذلك الثمن أن يأجره الرجل عنده ثلاثة أيام في عمل من أعمال الزراعة! وقد تم له ذلك فطابت به نفسه وصار الكتاب ملكا له، وذلك ما اغتبط له أشد الاغتباط
وراح يقرأ وهو يقتبل شبابه كل ما تصل إليه يده. يقرأ في ضوء النهار حتى ينقضي فيقبع في الليل إلى جانب الموقد يقرأ على ضوء اللهب! لا يكل له طرف ولا تأخذه سنة حتى لينسى طعامه وشرابه إذا كان حيال فقرة قوية أو حديث ساحر
ومالت نفسه إلى تفهم أسرار الحياة وهو بعد في تلك السن، فأخذ يتأمل ويتأمل، يلتقط جريدة قديمة فيقرأ فيها ما يعجب له ولا يفهمه، يقرأ عن الانتخابات وعن مسألة العبيد، ويسمع أشباه ذلك في الكنيسة وفي أحاديث الجيران فيعجب بينه وبين نفسه، وهو لا يدري كنه هذه الأشياء على وجه اليقين
وأخذ يدرس من كثب طباع الناس، وكانت له نظرة نافذة إلى أعماق الأشياء، وكانت نفسه بطبيعة تكوينها تنفعل للجمال والحق وتنفر من الشر وتنأى عنه. ولو رآه خبير بطباع البشر يومئذ لظن أنه حيال شاعر تنبسط جوانب نفسه، وتتهيأ لرسالة من الرسالات روحه. ولقد كان إبراهام يكتب الشعر يومئذ ويقرأه على خلانه؛ وصارت للشاعر بيرنز عنده مكانة سامية حتى لقد حفظ ديوانه عن ظهر قلب، وصار لا يقدم عليه شاعراً سوى شكسبير
عجيب حقاً أمر هذا الفتى الذي تنقسم حياته بين المدرسة وبين أعمال النجارة في الغابة، والذي يقرا مثل هذا النوع من الكتب قراءة تمعن وتمحيص! ولكنها العبقرية تفتح وتعلن عن وجودها بشتى الصور والأساليب، وهي هي الجوهر الثابت لا تدركه الأبصار وإن أحسته القلوب والعقول.