للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

هو الآن يتخطى السادسة عشرة، طويل الجسم مديد القامة عريض الصدر، ولكنه نحيف تستوقف الأبصار نحافته كما يستوقفها طوله، وهو على نحافته قوي الجسم قوة ما توافت لمثله في هذه السن؛ وكأنما تجمعت تلك القوة في ساعده، فليست هناك دوحة تقوى عليه إذا هو أهوى بفأسه عليها. بذ أباه في قطع الأشجار وتسوية الأخشاب، وغالب أقرانه في الغابة حتى سلموا له بالتفوق مكرهين

وكانت هيئته وحشية بسبب شعره الأشعث المغبر وهندامه الساذج المتهدل، وتقاطيع وجهه المسنون الذي يبرز فيه الأنف بروزاً شديداً فيبدو كأنه أضخم من حقيقته، ولذلك ما كان يطمع ابراهام وهو في سن الأحلام والتظرف أن تنظر إليه فتاة نظرة ذي علق. . . وهل كان يتجه خياله إلى شيء من هذا؟ حسبه ما هو فيه مما هو أسمى من ذلك وأجدى

ولاحظ عليه أقرانه شيئاً من الشذوذ يومئذ، فهو يلقي بفأسه أثناء العمل في الغابة ويخرج من جيبه كتاباً فيقرأ ويقرأ في صوت جهوري كأنه خطيب. . . وهو يضحك أحياناً بلا سبب ظاهر وقد يعلو في ضحكه مبتدئاً من ابتسامة حتى يصل إلى قهقهة، وهو على رقة عاطفته ورفق قلبه يقوم للجيران إذا دعوه بأعمال الجزارة فيقتل لهم الخنازير بوقذها في جباهها في جرأة وسرعة. . وبينا يرى الناس منه ذلك يعجبون العجب كله إذ يرونه يمد يد المساعدة إلى الضعفاء والبؤساء. لقي وهو في طريقه مع رفيق له رجلاً قد ألقاه جواده في الطريق وقد ذهبت الخمر بلبه، فمازال به يوقظه وهو لا يستيقظ ولا يفيق، فتبرم صديقه، فرد عليه أنه لا يستطيع أن يترك هذا الرجل على الرغم من سكره فريسة للبرد وحمله على ظهره إلى كنه؛ وأقام إلى جانبه ردحاً من الليل. وسمعه الناس يعلن عطفه على الهنود الحمر قائلاً إنهم أصحاب تلك الأرض وإنهم أخرجوا من ديارهم وأنهم لذلك جديرون بالرحمة والعطف!. ولم يقف به عطفه عند الإنسان، بل لقد أظهر غير مرة الرأفة بالحيوان، فوقف ذات يوم ينقذ كلباً وقع في الثلج وقد ناله في ذلك من التعب ما ناله. ورأى بعض خلانه يلعبون بسلحفاة أوقدوا على ظهرها ناراً فعنفهم وذهب من فوره فكتب موضوعاً في الرفق بالحيوان وقرأه على من صادفهم من جيرانه!

ومما يعرف من ميوله يومئذ ميله إلى المحاماة، ولعل مرد ذلك إلى حدبه على المستضعفين. عرف هذه المهنة حين قصد ذات يوم إلى جلسة قضائية في بلد قريب

<<  <  ج:
ص:  >  >>