وسواء أحسبوا ذاك أم لم يحسبوه فإنهم كانوا قد ضاقوا بمريضتهم ذرعا، وملئت قلوبهم منها ذعرا، لأن أنفاسها وباء، وبزاقها داء، وأنينها لهم أنين، وحملها عبء إن كانوا قد استطاعوا حمله أياماً فأنهم عليه مع هذا الجنون غير صبُر
وكان الناس لا يتورعون أن يدفنوا مرضاهم أنصاف أحياء خشية استفحال الوباء، فلما أغمي على جينفرا، وطال عليهم إغماؤها، وقر في قلوبهم أنه الموت، فجهزوها مسرعين، وحمل تابوتها طائفة من القسيسين فهرولوا به إلى مدفن العائلة، وكان قبواً عظيما تحت الأرض بعيداً من المدينة، فدفنوها فيه في احتفال بسيط؛ ووقف زوجها وأهلها وعارفو فضلها يذرفون عبراتهم على ثراها. . . ثم انصرفوا. . . وأقبل أنطونيو المحزون يبكيها بدوره، ويسكب عليها شئونه لا كما يسكبها غيره من الناس، بل كما ينبغي أن يفعل العاشق الصب وسد الناس قلبه تحت الثرى والصفاح
لقد وقف المسكين على ثرى معبودته، وعند قبوها الهائل، وراح ينثر بقايا روحه على جدثها الطاهر العزيز. . . ثم جلس في ذهول وفي شبه إغماء، وانطلق يحلم بماضيه الجميل، ويرسل عينيه وراء سجفه الشفشافة ليراه جالساً إلى جينفرا يناجيها، ويتحدث إليها حديثاً كقطع الروض، ومنضور الورد، ويقبلها تلك القبل الحالمة الناعمة فوق ثغرها وفوق نحرها وفوق ذراعيها. . ثم يفيق المسكين. . . فيراه جالساً يبكي. . . فوق قبرها. . . وهي تحت هذا الجندل المركوم والتراب المهيل جثة هامدة ساكتة صامتة، لا يتحرك لسانها، ولا تنفرج شفتاها، ولا يتفتح الورد في خديها، ولا ينبعث النور واللألاء من جبينها ووجنتيها فيحس كأنما روحه تساقط مع أنفاسه الباردة لتثوي مع جينفرا تحت التراب.
ويقف أنطونيو فجأة ويحدج القبر بعينيه الباكيتين، ويقسم أنها ليست فيه!. . . ليكن! قد يكون ما يعني روحها. . أو. . ذكرياتها.
ثم يمضي إلى المدينة، ويذهب إلى منزله مصدوع القلب، ذائب النفس، خفق الأحشاء، ليس أسمج في عينيه من هذه الدنيا الكريهة الغادرة!
لم تكن جينفرا قد ماتت كما وهم القوم، بل كانت مغمى عليها إغماء شديداً. . . وليت أنطونيو ما فارق ثراها، حتى يسمع صوتها الضعيف داخل القبو بعد إذ انصرف بلحظات.