لقد هبت المسكينة من غفوتها في العالم الآخر، فجاهدت كثيراً حتى نهضت من تابوتها، وسرعان ما عرفت مصيرها فلم تذعر ولم تنزعج مع ما كانت تضيق به من برد المقبرة وهوائها المرطوب، وريح أكتوبر القارسة
ثم أنشأت تعالج التخلص من تلك الأكفان التي لم تخلق للبوس هذه الحياة الدنيا، وكانت تسبح بأسماء الآلهة والقديسين وتتوكل عليهم فيما هي فيه من الضيق، وكانت شعاعة ضئيلة من أشعة القمر تنسرق إلى القبو من شق صغير فيه، فكانت لها في شدتها وحرجها كبسمة الأمل الحلو الذي ضاعف جهادها في سبيل الحياة. . . واستطاعت بعد لأي أن تخلص من بعض أكفانها، وأن تخطو في ضعف وإعياء نحو باب القبو. . . وتهالكت على نفسها حتى صعدت فوق الدرج. . وهناك جلست لتستريح لحظة، وتستجم لما أمامها من العمل. . . حتى إذا أحست في ذراعيها قوة أعملتها في الحجارة التي كانت تسد باب القبو، والتي كانت تتماسك بطبقة رقيقة من الملاط، كانت ما تزال لينة رطبة، فسهل على جينفرا إزالة بضعة منها، بحيث أحدثت ثغرة تكفي لخروجها في شيء من الصعوبة، وقليل من العناء
وشجعها ما كانت فيه من هلع على نفسها داخل القبو، وما نالته من الظفر فاحتملت قر الليل وصرير الريح ووحشة الوادي، وجعلت تخطو بقدمين متخاذلتين في الطريق المقفر إلا من أشعة القمر، المنجرد إلا من عشب هنا وعشب هناك، حتى وصلت إلى المدينة. . .
لله ما أروع هذا الشبح الساري في ضوء القمر يدب على التراب المندى بقدمين عاريتين، وفي أكفان حريرية كأنفاس البخار تصاعد من النبع!
ولله هذا الوجه الشاحب الذي برز الساعة من ظلال الموت وحدود الفناء، وجعل يتدَهْدَى في طرقات المدينة حتى بلغ دَايْ كالْزَاجُولي!
لقد كان فرنسيسكو جالساً يستدفئ بالقرب من النار المتأججة في المدفأ، ووجه عابس وجبينه مقطب، وعليه من بداوات الأسى وعلائم الحزن ما كان ينبئ عما في قلبه من ثورة الوجد على عروسه التي لم يعش في كنفها الوارف أكثر من أشهر ثلاثة ثم قضت. . . وفاز بها الطاعون دونه!