وقد عزّ عليّ أن يجاملني الناظر إلى هذا الحد، مع أنه أكبر مني سناً وعلماً، ولكن ماذا أصنع وأنا لا أخلو من لؤم، ومن حقي أن أستفيد من فساد المجتمع؟
ودخلت يوماً المدرسة الإبراهيمية فوجدت مدرساً كان من زملائي. وكان فيما أذكر أبصر مني بالدقائق النحوية والصرفية واللغوية، فأبيت إلا أن تعجرف عليه وأستطيل. وجدته يطلب من التلاميذ أن يتكلموا عن فوائد السينما، فقلت: لماذا لا تقول الخيالة؟ ورأيته يمرّ على كلمة (تطورّ) في دفاتر التلاميذ فلا يصححها، فحاسبته أشد الحساب فقال: إن الله يقول في كتابه العزيز (وخلقنا كم أطواراً) فقلت: نعم إن الله خلقنا (أطواراً) ومن أجل ذلك لا يصح أن (نتطور) يا أستاذ!
وقد هداني اللؤم إلى أن أقترح على وزارة المعارف أن تعهد إليّ التفتيش في المدارس الأهلية والأجنبية، لأن التفتيش في مدارس الحكومة يضايقني قليلا، إذ كان المدرسون في المدارس الثانوية قد ثبتت صلاحيتهم للتدريس منذ سنين؛ وأمثال هؤلاء لا يمكن قطع أرزاقهم بسهولة. أما المدارس الأجنبية والأهلية فيمكن فيها زعزعة مركز المدرس بإشارة أو إشارتين؛ وكذلك أستطيع السيطرة بلا عناء
ومن مزايا التفتيش أن يحفظ التلاميذ أشعاري بفضل (لباقة) المدرسين. وأذكر أني دخلت يوماً إحدى المدارس فأردت أن أختبر الطلبة في المحفوظات، فرأيت تلميذاً قيل إنه ابن وزير سابق. فقلت: أسمعني يا شاطر بعض ما تحفظ، فابتدأ يصيح:
قال سعادة الدكتور زكي بك مبارك:
يا جيرة السين يحيا في مرابعكم ... فتى إلى النيل يشكو غربة الدار
جَنَتْ عليه لياليه وأسلمه ... إلى الحوادث صحبٌ غير أبرار
فخشيت التورط في سماع شعري فأشرت على الطالب بأن ينشد شعراً غير هذا، فصاح:
وقال سعادته أيضاً:
نسيتم العهد واسترحتم ... من لوعة الحافظ الأمين
فأسكتّ الطالب وقلت للأستاذ: أليس لدى الطلبة محفوظات غير أشعار زكي مبارك؟
فقال: لقد أعطيتهم خمس قطع من أشعار زكي مبارك وثلاث قطع من أشعار علي الجارم،