للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فجأة وراح يقول في صوت هادئ متهدج، بعد أن قبض على يدي: (إن لك أمّاً تنتظرك لتقبلك عندما تعود إلى البيت. . .!)

وكانت الشمس تهبط إلى خدرها خلف الجبال في سماء صافية وكان النهر يضطرب بأشعتها الذهبية الرائعة. . . فلما قال ما قال سألته بدوري، والدموع تترقرق في مقلتيّ: (وأنت أين أمك الآن يا ترى؟!) بيد أنه اشتغل عني بعصفورَيْ جنة، فانحنى إلى الأرض حين رآهما، وتناول حجراً ثم سدده إليهما في انتباه عظيم، كأنما حسب أنه يصمم بندقية وأرسله في عنف. . . وطار العصفوران كسهمين مُرَاشَيْن من غير أن يصيبهما أذى. . .

وقال سنسناتوس، وهو ينظر إليهما يزفان إلى السماء اللؤلؤية مفترّاً عن فمه: (طِيرَا. . . طيرا. . . طيرا. . . طيرا) يرددها في نغمة متسقة أربع مرات

ولقد لاحظت تبدّلاً في سلوكه منذ بضعة أيام. . . وكان يبدو كأنما تشتعل الحمى بين جنبيه. . . مسكين!. . . لقد كان ينطلق وسط الحقول يعدو ويجري، فلا يقف حتى يهده التعب، فيسقط ويتحوى كالثعبان، ويبرق بعينيه المفزوعتين في شمس الظهيرة الساطعة! فإذا كان الأصيل ألقى جاكتته فوق كتفه وراح يتخلج كالأشراف الأسبان، في خطى واسعة بطيئة مهطعاً مرة، مستأنياً متمهلاً مرة أخرى

وقد أهملني. . . ولم يعد يحضر لي باقات الخشخاش ولا أزاهير المرغريت. . . ولشد ما أحزنني ذلك منه برغم إشاعات الهجر، وألسن السوء التي كانت تقدح فيما بيني وبينه. . .

ففي صبيحة جميلة مشرقة ذهبت لألقاه حيث تعودنا أن نتقابل، لكنه لم يعن بي، ولم يتوجه بعينيه نحوي. . . فقلت له وقال لي:

- ماذا يا سنسناتوس؟!

- لا شيء!!

- هذا كذب. . .

- لا شيء!!

- هذا كذب. . . هذا كذب!!

وكنت ألمح في عينيه لهباً يتأجج فيهما، فالتفت حيث كان يرسل بصره، فرأيت فتاةً جميلةً فلاحةً، واقفة فوق وصيد دكان قريب

<<  <  ج:
ص:  >  >>