للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وشاء القدر أن تفقد مي والديها واحداً إثر واحد كما يفقد كل إنسان أبويه في هذه الحياة، ولكن مي الشاعرة العطوف الرقيقة الحواس تزلزل منها هاتان الصدمتان قوتها واحتمالها، وتساورها الهموم والأحزان فتقبع في عقر دارها تناجي نفسها وتندب حظها بفقد أعز الناس عليها، فيأتي إليها بعض ذوي قرباها في ثياب الحمل وهم ذئاب خاطفة ويحملونها على السفر إلى لبنان وطنها الساحر على أمل أن تجد في جوه الجميل ومائه النمير ومناظره الخلابة وجباله الشم ما يرفه عن نفسها المشوبة بالأكدار

وتحقن مي بمصل مخدر سواد ليلة من الليالي فتصبح بياض نهارها بين المجانين في مستشفى الأمراض العقلية المسمى بالعصفورية في ضاحية بيروت فتثور ولكن على من؟ وتستنجد ولكن بمن؟ إنها أصبحت في عداد الذين أفقدتهم صدمات الحياة الرشد وأقعدتهم المصائب هذا المقعد الأليم. وتنقطع مي عن الطعام والشراب إلا ما تسد به الرمق وتستبقي بواسطته الحياة

وبعد أن تقضي السنة في ذلك المارستان ينقلها أولئك الذئاب إلى مستشفى ربيز في بيروت ولكن يحوطونها برقابة شديدة ويمنعونها من الاختلاط بأحد لئلا يطلع على ما بيتوا لها من شر مستطير وأعدوا لها من ظلم صارخ فتتم سنة أخرى بين العقلاء الذين لا تستطيع الدنو منهم والتحدث إليهم

ويسعف الحظ فيؤتي بسيدة من آل الجزائري في دمشق إلى المستشفى وتوضع في غرفة مجاورة لغرفة مي السجينة فتسمع (مي) صوت السيدة وهي تتململ في فراشها من شدة الألم الذي أعقب عملية جراحية فتفتح الباب الموصل بين الغرفتين بجهد وتدخل إلى غرفة السيدة الجريح لمواساتها على تخفيف آلامها وتكرر مي هذه الزيارات ليلاً في خلسة من الرقباء

وتستأنس السيدة الجزائرية بجارتها الحنون لا سيما بعد أن اندمل جرحها فتسألها عن حالها وسبب مقامها في المستشفى فتنفجر (مي) بكل ما في نفسها من آلام وتشكو أمرها وما تقاسيه من عنت الظالمين إلى السيدة التي تألم كثيراً لها وتستعين بأوليائها من الرجال على كشف مظلمتها ويقوم هؤلاء السراة الأمجاد أحفاد الأمير عبد القادر الجزائري ويعملون على إطلاق سراحها

<<  <  ج:
ص:  >  >>