ذهب عامل البريد ومخطط الأرض إلى حيث يجلس مع المنتخبين، وإن له في السياسة لشأناً بعد حين. هو الآن في الخامسة والعشرين وقد اختاره الناس لما خبروا من خلاله وما رأوا من سعة اطلاعه ورجاحة عقله؛ ولكنه فقير فكيف يذهب في ملابسه البالية إلى المجلس؟. . . اقترض ذلك الشاب المدخر لرياسة أمريكا في غد - بعض النقود فاشترى حلة جديدة وذهب إلى فانداليا عاصمة الينويس فاتخذ مكانه بين ممثلي الولاية. . . جلس يدرس ويفكر، لا تفوته عبارة ولا تفلت منه قضية، وكانت مشكلة العبيد تشغل بال الناس يومئذ في وضع من أوضاعها، كما كانت تشغل بالهم أمور أخرى تنحصر فيما كانوا يتوخون من وجوه الإصلاح في التجارة والصناعة وسبل الاتصال. اتضح من خلال إبراهام في المجلس ما عطف عليه القلوب، فقد رأى منه زملاؤه الإخلاص والحماس في غير تعصب، فهو يدافع عما يعتقد أنه الصواب أو الحق في قوة وفي إصرار يشبه العناد، حتى إذا تبين له أن الحق في جانب مجادله سلم له في سرعة تسليم الرضاء والغبطة. ورأى منه زملاؤه فوق ذلك قوة في التعبير عما يريد كان مبعثها حسن اختيار اللفظ أو كان مبعثها لقانة تواتيه بالكلمة المطلوبة لا تزيد ولا تنقص. ولقد أعجبوا منه بتلك الخلة التي ستكون في غد جانباً من أهم جوانب زعامته. . . وأنسوا منه خارج المجلس إلى خلة أخرى من خلاله اشتهر بها منذ كان في الغابة، تلك هي تلاوة الحكايات، فهو ما يفتأ يقص عليهم من قصصه ما يطربهم ويعجبهم
وكان إبراهام يزور نيوسالم كلما سمح له وقته بزيارة. وهو اليوم يحب آن كما يكون الحب. أكبرت صفاته وأعجبت برجولته وصارت لا تعدل به غيره؛ ثم أحبته وليس بعد الحب رابطة، وألفى إبراهام نفسه - وهو من عرفت قوة عاطفة وصحة وجدان - في ربيع العمر حقاً، لا يرى حوله إلا جمال الربيع ونشوة الربيع، ولا يحس إلا سر الربيع ووحي الربيع، يروح ويغدو مع صاحبته وكأنهما من فرط مرحهما طائران من طيور الخمائل. . . ولكن وا أسفاه! لن يطول هذا الربيع، بل إنه لينقلب إلى جحيم في سرعة خاطفة!. . . نزلت الحمى كما نزلت من قبل في كنتوكي فكان من ضحاياها طائره الجميل! وغدا إبراهام يرمض الحزن قلبه ويأكل الجوى أحشاءه. . . وتلك هي الصدمة الثانية بعد