فعلوا شيئاً مما ذكرت يجدون في شعوبهم من يجرؤ على نقدهم؛ أما في الشرق فلا. فذكرت له كيف كان الواعظ يدخل على الخليفة فيقرعه حتى يبكي كما فعل أحدهم مع هرون الرشيد، وذكرت كيف أن من القضاة من كان يزهد في منصب القضاء وإن أوذي من أجل رفضه. قال الأستاذ: يخيل إلي أن الحكم على حياة أمة من الأمم حكما عاماً من حيث مظاهر الرحمة أو القسوة فيها من الصعوبة بمكان، أو لعله ليس من المستطاع، لأن المؤرخين لم يكن ميزانهم للحضارات وقياسهم لها بميزان الرحمة ومظاهرها فلم يحصوها كلها، ولو فعلوا لاستطعنا أن نحكم بإحصائهم. قلت: إذاً. لا نستطيع أن نقول على التعميم إن مظاهر الرحمة في الحضارات الأوربية كانت دائما أكثر من مظاهرها في الحضارات الشرقية أو العربية الإسلامية. قال الأستاذ: ربما كان الأمر كما تقول، ولكن العرب أصلهم قوم بدو، والرحمة في كثير من الأحايين لا تصل إلى قلوب البدو، لطبيعة أرضهم الجرداء القاسية وصعوبة نيل الرزق، فأعدتهم أرضهم القاسية بقسوتها. ولعلك تذكر غارات القبائل بعضها على بعض حتى بعد الإسلام، وما كان يحدث في تلك الغارات في بعض الأحايين من قتل النساء والأطفال. ولعلك تذكر أيضاً كيف كانوا يعاملون الحجاج الذين يقصدون مكة. ومن أجل هذه الطباع فيهم دخلت الحدود في الإسلام لتكبح جماح البد، وأريد تطبيقها في بلاد طبيعة أهلها وطبيعة أرضها غير هذه الطبيعة. ومن أجل شدة الحر في بلاد العرب وإطلاق البدو أنفسهم على سجيتها دخل في الإسلام رجم الزاني ثم نقل إلى بلاد أخرى. قلت: يا أستاذ فرض على الحاكم أن يدرأ الحدود بالشبهات، وذكرت له قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي بكرة، وكيف أنه جعل يلتمس الشبهات في شهادة الشهود حتى نجي الرجل من حد الزنى، وذكرته أن التعزيز من عقوبات الإسلام، وذكرته بما يفعله الناس في أمم أوربا وأمريكا إذا قصر القانون أو استبطئوه، فإنهم يختطفون المتهم ويعاقبونه أقسى عقاب، وقد يمثلون به أشنع تمثيل؛ وقد يكون الرجل بريئاً مما نسب إليه. وذكرته بما تفعله أحدث الدول الأوربية إذا اضطرب حبل الأمن في بقعة شرقية. وقلت له إن الحدود لم تمنع انبعاث مظاهر الرحمة والنور في أسبانيا العربية بينما كانت أوربا غارقة في بحر من ظلمات الجهل والقسوة، ويشهد بذلك كثير من المؤرخين الأوربيين
والى هنا انتهى حديثي مع ذلك الأستاذ الجامعي بعد أن ذكرته بأن سوء ظن الأمة بالأمة،