وأهل القارة بأهل قارة أخرى، هو من قبيل سوء ظن الإنسان بإنسان آخر لا يعرفه أو لا يعرف عنه إلا القليل، وهي ظاهرة في النفس الإنسانية عامة يستوي فيها العالم والجاهل والفطن والغبي والمنصف والظالم
أقول إن هذه الظاهرة هي سبب ما نراه من نكران بعض المؤرخين الأوربيين لفضل العرب على الحضارة الأوربية أو تهوينهم أمر أثر العرب في تلك الحضارة، فبعضهم لا يقرون للعرب إلا بأنهم كانوا قنطرة عبرت عليها علوم الحضارة الإغريقية الرومانية إلى الحضارة الأوربية الحديثة، وبعضهم يقول إن الحضارة الأوربية كانت نامية لا محالة حتى لو أن أوربا لم تتأثر بالحضارة العربية. ويقول إن العرب لم يكونوا كل مصادر الحضارة الأغريقية، وإن المصادر الأخرى الأوربية كانت أجدى وأنفع وألصق. ومما يؤسف له أن بعض الشرقيين قد جاروا هؤلاء في دعواهم من غير تقص ولا بحث عميق
إن الحضارة الأوربية كانت حقيقة نامية لا محالة لأسباب داخلة في تاريخها؛ ولولا استعداد الأوربيين للتأثر بالحضارة العربية ما أمكنهم قبولها؛ واستعدادهم هذا يدل على بدء نحو الحضارة فيهم؛ ولكن هذا لا ينفي أنهم تأثروا بالحضارة العربية تأثراً كبيراً. ولا تزال المعركة الكلامية قائمة بين من يمجد أثر العرب في الحضارة الأوربية ومن يقلل من أثرهم من المؤرخين. والفريق الثاني ينظر إلى العيوب ويغفل عن الحسنات، فينظر مثلا إلى إضاعة بعض علماء العرب وقتهم وجهدهم في محاولة كشف إكسير الحياة أو حجر الفلاسفة، ويغفل كشوفهم العديدة وفضلهم على العلوم الحديثة على اختلاف أنواعها، فيغفل فضلهم في نقل الورق إلى أوربا، ولولاه ما أجدى اختراع المطابع وتحسينها، ولا كانت للحضارة الحديثة مظاهرها الشاملة؛ ويغفل ما نقلوه إلى أوربا من المصنوعات والمنسوجات والمزروعات المختلفة، وما أعطوهم من مخترعات مثل الإسطرلاب وبيت الإبرة والعدسة؛ ويغفلون فضلهم على الطب والتشريح والفلك والعلوم الرياضية وأنواع الهندسة والكيمياء، كما يغفل أثرهم وقدوتهم في وسائل الري وإعداد المدن بوسائل الراحة والرفاهية والنظافة كما فعلوا في إسبانيا وغيرها. ويغفل أثرهم في العلم والتعليم وكيف انتشر التعليم والاشتغال بالعلم انتشاراً لم يكن له مثيل. وقد أقر المؤرخ دريبر في كتاب (نحو الفكر الأوربي) بهذا التعصب ضد الحضارة الإسلامية كما أقر به ماكاب في كتاب