وإرشادهم أشد عناية، لأن ذلك كان من أهم أغراض الرسالة. كان يعلمهم بنفسه، يقوم بذلك في المسجد، وفي كل مجلس يجلسه، وفي كل مقام يقومه، في الحضر والسفر، والسلم والحرب؛ وكان يحض المتعلم من أصحابه على أن يعلم الناس، ويشجع من قام بذلك بقيامه على حلقته في المسجد. وكان يستعين في ذلك بأمثل أصحابه يرسلهم إلى الجهات النائية أو القبائل التي دانت بالإسلام ليؤموهم ويرشدوهم ويعلموهم القرآن وأحكام دينهم. ومن عنايته صلى الله عليه وسلم بالتعليم أن جعل فداء المعسر من أسرى بدر إذا كان قارئاً كاتباً تعليم عشرة من غلمان المدينة
وأما ولاية الصدقات والأموال فكانت جبايتها إلى من يختارهم من أصحابه العالمين بأحكامها، يجمعونها من أهلها في بلادهم المختلفة ويحضرون بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيوزعها لوقتها دون أن يدخر منها شيئاً. ولذا لم تكن لهذه الأموال على عهده خزائن لحفظها ولا سجلات لقيدها، وإنما وجد ذلك بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. وذلك يرجع إلى قلة ما كان يجمع منها على عهده وحاجة المسلمين إليه وقيامهم جميعاً بالدفاع والغزو. ولم تكن موارد هذه الأموال يومئذ تتعدى الصدقات والغنائم والجزية؛ وكانت مصارفها ما بينه الكتاب الحكيم في قوله تعالى:(إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) وفي قوله تعالى: (واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل).
وأما ولاية القضاء والمظالم فكانت إليه في المدينة المنورة وما جاورها من الأماكن، إذ لم تكن الخصومات كثيرة إلى الدرجة التي تدعو إلى الاستعانة بغيره. ولم تكن مع ذلك خصومات حقيقية، بل كان أكثرها لا يعدو أن يكون اشتباهاً في وجه الحق، فإذا بينه عليه السلام بعد الترافع إليه فما أسرعهم إلى الرضا والتنفيذ دون حاجة إلى دافع أو ملجئ. على أنه عليه الصلاة والسلام لم يستغن عن معاونة غيره في الحوادث التي تتطلب الانتقال، وفي البلاد النائية التي فتحها الله عليه كاليمن والبحرين ومكة وغيرها، فولى فيها ولاة جمع لهم بين ولاية القضاء والصلاة والصدقات والحرب، وربما فرق بينها حسبما تدعو إليه الظروف والمصالح